في ذكرى وفاة الإمام العسكري

كان الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام الإمام الحسن بن علي الملقب بالعسكري نسبةً إلى حي العسكر في سامراء، يملك امتداداً من التعظيم والإجلال في مواقع المجتمع كلّها، بما في ذلك الوزراء والقوّاد وطبقات المجتمع، حتى أنّ بعض الذين كانوا ينصبون له العداء يشهدون بذلك.. وهناك وثيقة تاريخية تنقل هذا الجوّ من بعض أولاد رجال الدولة، حيث يروي (أحمد بن عبيد الله بن خاقان) وكان أبوه وزيراً للمعتمد العباسي على الضياع والخراج، فقد جرى في مجلسه ذكر العلوية، أي المنتسبين إلى الإمام علي عليه السلام ومذاهبهم، وكان شديد النصب، أي شديد العداوة لأهل البيت عليهم السلام فقال: (ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخطر) أي الموقع الكبير، فلقد كان في سن الشباب، شيوخ من بني هاشم، وكانوا يقدّمونه عليهم (وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس).
وهذا ما يبعث على التأمل، إذ كيف يبلغ إنسان في خطّ مضاد لموقع الخلافة هذه المنزلة العالية، لأنّ هناك الكثير من الناس ممن كان يعتبر الإمام عليه السلام أحقّ بالحكم لو كانت ابتعدت عن بني العبّاس، فمن أين يحصل إنسان في هذه السنّ وفي هذا الواقع الذي يمتلىء بالذين ينصبون العداوة لأهل البيت عليهم السلام على هذه المكانة؟
وربّما نقرأ في أكثر من حديث من أحاديث الإمام العسكري عليه السلام حديثه عن النصّاب الذين كثروا في عهده وكانوا يتحركون بأكثر من أسلوب، ما جعل الإمام يركّز على ضرورة توعية السائرين في خط أهل البيت حتى لا يثير هؤلاء أمامهم الشبهات، فلا بدّ أن يكون الإمام قد سيطر على الواقع من خلال الثقافة التي كان يحرّكها في ذلك الواقع، والسموّ الروحي والأخلاقي والنشاط الحركيّ في المجتمع بالمستوى الذي لم يستطع أي أحد أن يسجّل عليه أيّة نقطة ضعف، ما جعله يفرض نفسه على الواقع كله.
ونتابع حديث (أحمد بن خاقان) الذي ينقل عن أبيه الذي كان من الشخصيات المبرّزة في الدولة، فيقول: (كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجّابه، فقالوا: أبو محمد ابن الرضا في الباب) ونعرف من هذا أن الأئمة عليهم السلام كانوا يلتقون ويزورون بعض الشخصيات في الدولة، وذلك من أجل القيام ببعض مصالح المسلمين، ومراعاة الظروف الحرجة المحيطة بهم (فقال بصوتٍ عال: ائذنوا له، فتعجّبت مما سمعت منهم أنهم جسروا) أي تجرّأوا (يكنّون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكنّ عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى) فأن تذكر شخصاً بكنيته فهذا مظهر من مظاهر التكريم (فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حديث السن، له دلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خطى، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاّه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه، وأنا متعجّب مما أرى منه، إذ دخل عليه الحاجب، فقال: الموفق) وهو أخو المعتمد العباسي (قد جاء. وكان الموفّق إذا دخل على أبي تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين) أي صفين متقابلين (إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدّثه حتى نظر إلى غلمان الخاصّة، أي خدم الموفّق، فقال حينئذٍ: إذا شئت) أي أن تذهب (جعلني الله فداك، ثم قال لحجّابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا ـ يعني الموفّق ـ فقام وقام أبي وعانقه ومضى، فقلت لحجّاب أبي وغلمانه: ويلكم مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علويّ يقال له الحسن بن علي يعرف بابن الرضا، فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيت فيه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة) أي العشاء الآخرة (ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات) أي المراجعات (وما يرفعه إلى السلطان، فلمّا صلّى وجلس جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بنيّ فقُل ما أحببت، قلت: يا أبه، مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك، فقال: يا بنيّ ذاك إمام الرافضة! ذلك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بنيّ لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العبّاس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه) أي الإمام علي الهادي عليه السلام (لرأيت رجلاً جزلاً) أي سخيّ العطاء (حكيماً نبيلاً فاضلاً. فازددت قلقاً وتفكّراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه واستزدته في قوله وفعله فيه ما قال، فلم يكن لي همّة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقوّاد والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحلّ الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه).
إن هذا النص يعتبر وثيقة تاريخية تدلّ على مدى مكانة الإمام العسكري في المجتمع كلّه، سواء عند من يدين بإمامته أو عند من يعارضها، وليس لذلك من تفسير سوى أن الإمام عليه السلام استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع كلّه من خلال الملكات القدسية التي كان يتمتع بها في جميع جوانب المعرفة والروحانية والصلاح والخلق الرفيع.