خطبة الجمعة 6 ربيع الأول 1434 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى : الثقة بالله في الدعاء


ـ عاصر الإمام العسكري(ع) عصراً عباسياً كان القادة العسكريون من آسيا الوسطى (الترك) يتحكمون في أمور الخلافة إلى درجة أنهم كانوا يقومون بعزل الخليفة أو قتله أو تعذيبه متى شاؤوا، حتى قيل:
خليفة في قفص بين وصيف وبغا يقول ما قالا له كما يقول الببغا
ـ ومن هؤلاء القادة كان موسى بن بغا الذي تأذى منه أهل قم التي كانت في ذلك الوقت مدينة حافلة بالعطاء العلمي ضمن مدرسة أهل البيت(ع)، إذ وفدت عليها في العهد الأموي مجاميع من أهل الكوفة المضطهدين على يد ولاتها، خاصة من قبيلة الأشعري اليمنية التي كانت توالي علياً(ع)، فاستقرت بها ودعت إلى الإسلام، فعرف أهلها الإسلام ودخلوا فيه من خلال هذه المدرسة المباركة.
ـ وفي رواية أن أهل قم شكوا إلى الإمام العسكري ظلم موسى بن بغا، فدعا(ع) في قنوته وأمر أهل قم بأن يدعو بهذا الدعاء، وهو دعاء طويل اخترتُ منه هذه المقاطع:
(اللهم إنك ندبتَ إلى فضلك، وأمرتَ بدعائك، وضمِنْتَ الإجابةَ لعبادك، ولم تخيّب مَن فزَع إليك برغبة، وقصَدَ إليك بحاجة، ولم تُرجِع يدَ طالبِه صِفراً مِن عطائك، ولا خائبةً مِن نِحَلِ هِباتِك، وأيُّ راحلٍ رحلَ إليكَ فلم يجدْكَ قريباً، أو أيُّ وافدٍ وفَد عليك فاقتطعَتْهُ عوائدُ الردِّ دونَك، بل أيُّ محتفِرٍ مِن فضلك لم يُمْهِه [يشمله ويعمّه] فيضُ جودِك).
ـ لاحظ عظيم الثقة بالله، وحسن الظن به في وعده حيث قال: (ادعوني أستجب لكم) وأنه سميع مجيب الدعوات، فهل نملك مثل هذه الثقة حين نرفع أيدينا بالدعاء؟ أم نسمح للشيطان بأن يزعزع ثقتَنا بالله بمبررات واهية؟
ـ (اللهم وقد قصدتُ إليك برَغْبتي، وقرَعَتْ بابَ فضلِك يدُ مسئلتي، وناجاك بخشوعِ الاستكانةِ قلبي، ووجدتُك خيرَ شفيعٍ لي إليك) لا حواجز بينك وبين الله في الدعاء، فلا تصطنع الحواجز بينك وبين الله، ارفع يدك ومجّد الله واحمده وتذلل إليه واسأله بشكل مباشر وأنت على ثقة به، فهو كما في نهج البلاغة: (وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَتَكفَّلَ لَكَ بِالإجَابَةِ. أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ).
ـ وإذا كان أحدنا يقول أنني مذنب، وأن ذنوبي تحجب دعائي، فمن الخطأ أن يتصور هذا الشخص أن أحداً سيشفع له عند الله بما يخالف رضا الله: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء:28)، ومن الخطأ أن يتصور أن أحداً يستطيع أن يغيّر حكمَ الله وهو تعالى القائل:(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(الرعد:41).
ـ ولا حل أمام هذا الشخص إلا بأن يتقدم إلى الله في ضمن دعائه بالتوبة والإنابة، وهذا ما قرره الإمام علي(ع) في تتمة الوصية حيث قال: (وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَالنِّقْمَةِ، وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالإنَابَة، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى، وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الإنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ ذاتَ نَفْسِكَ، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَك، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الأعْمَارِ، وَصِحَّةِ الأبْدَانِ، وَسَعَةِ الأرْزَاقِ).
ـ ولذا من المهم أن ندعو ضمن دلالة الوصية النبوية: (فإذا سألتم الله عز وجل ـ يا أيها الناس ـ فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة) لا تقل دعوتُ مِن قبلُ ولم يُستجب لي، لا تدع للشيطان مجالاً كي يُضعف ثقتَك بالله، لتسئ الظن به، بل ادعُ وأنت موقنٌ بالإجابة.. ارفع يديك وقل يا الله، وهو يعطيك.. قل يا الله ومجّده وعظّمه واسأله بأحب الأسماء إليه بمحمد وآل محمد يستجب لك إن شاء الله.. ففي الحديث عن الصادق(ع): (من كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط، إذ كانت الصلاة على محمد وآله لا تُحجب عنه). ادعُ وقلبُك مطمئن أن الله يسمعك، فإن أعطاك ما تريد، فذاك، وإن لم يعطك شعرتَ بالرضا والراحة النفسية أن الله قد اختار لك ما هو أفضل، كما في دعاء الافتتاح حيث قال: (ولعل الذي ابطأ عني هو خيرٌ لي لعِلمِك بعاقبة الأمور).