العنف الروحي ـ الشيخ علي حسن ـ برمنجهام

الإيمان لا يعني النفور من الناس ممن لا يشتركون معي في القناعات الإيمانية، كما لا يعني أن أحمل حقداً في قلبي تجاه الآخرين الذين يختلفون معي.. بل الإيمان يعني أن أعيش الإنسان الإحساس بالمسئولية تجاه الآخرين، وأن أعيش الرغبة الصادقة في أن ينالهم من الخير ما وُفِّقتُ له، وأن تغمر قلبي المحبة الإنسانية الفطرية التي تمكّنني من أن أتعايش معهم بصورة تلقائية طبيعية، لأن القلب الذي لا يحب لا يستطيع أن يهدي الآخرين، وقد قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام من قبل: (هل الدين الإ الحب؟).
هكذا نفهم الإسلام، وهكذا نجده في سيرة النبي وآله عليهم السلام جميعاً، وفي سيرة المخلصين الواعين من أتباعهم رضوان الله عليهم، على طول الطريق.
عنف سلوكي:
ولكن قد يستغرق الإنسان المؤمن في خصوصيات الإيمان في ذاته، وتأخذه الحماسة الإيمانية، وتتغلب عنده العاطفة على العقل، فيرى الإنسان الآخر في الجهة المقابلة من الإيمان شيطاناً لابد من الاحتراس منه، وعدواً لابد من محاربته، معتبراً ذلك وسيلة من وسائل التعبير عن الإخلاص لله والذوبان في محبته والاندكاك في العقيدة التي آمن بها.
وهكذا لربما يترجم الإنسان المؤمن الفكرة الخاطئة إلى سلوك عنيف، يرجع عليه وعلى متبناه وعلى الآخرين بالضرر.
تبرير خاطئ:
كما قد يبرر البعض مثل هذا العنف الروحي ـ ولربما السلوكي تبعاً ـ باعتباره تمسكاً بقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)(الفتح:29)، في غفلة عن أن الآية إنما تتحدث عن طبيعة علاقة المؤمنين بالكافرين في أجواء الصراع والمواجهة حيث يحاول من خلاله الكافرون إضعاف مواقع الإيمان، وتقوية مواقع الكفر على حساب ذلك، لا في أجواء التعايش السلمي.
عنف داخلي:
وقد لا يكون مثل هذا التطرف الروحي في نطاق الخلاف العقدي في العناوين الكبيرة، بل قد يتجه حتى نحو العناوين الاجتهادية الصغيرة في العقيدة ـ بين أتباع المعتقد الواحد ـ أو في المسائل الفقهية الاجتهادية، والتي لربما يصعب لأحد الجزم بصحة الفكرة فيها، أو استنادها على دليل قاطع ينفي أي شك أو شبهة عنها.
إن المشكلة أحياناً في الوجدان الديني هي العنف الروحي المتمثل في عنف الإخلاص الذي يحوّل صاحبه إلى مشاعر وأحاسيس وانفعالات وتوترات لا تستطيع التعبير عن نفسها إلا بالوسائل العنيفة المباشرة، لأنها لا تعيش عقلانية الفكر، وهدوء الإحساس ومسئولية الإيمان.. الأمر الذي قد تستغله بعض القيادات الدينية في تسخير الشباب الذين يكونون هم غالباً وقود الصراعات الدينية أو الحزبية أو السياسية المقولبة دينياً، باعتبارهم أكثر الشرائح التي تعيش حالة العنف الروحي والتأزم النفسي في العلاقة مع الآخر المختلف.
تحريف الكلم:
ومن الممكن أن يأخذ الأمر منحى آخر، حيث يندفع البعض من المؤمنين بالفكرة إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وتأويل النصوص بالنحو الذي يخدم الفكرة التي يحملها دون أن يكون النص في هذا الإطار، بل قد يكون معارضاً لها.. ولكن الغاية بالنسبة إليهم تبرر الوسيلة غير الشرعية، وقد تُلبَس لباس الشرعية في عملية تأويلية وتحريفية متتالية تتماشى مع الروحية الانفعالية.
وهكذا يأتي الموروث التاريخي وتراكماته ليدفع في هذا الاتجاه، وليزيد من الاحتقان المتراكم، وليتحول الالتزام الديني المنطلق من الجهل والتخلف والتعصب إلى خطر على الإيمان نفسه وعلى المؤمنين جميعاً.
مسئولية المؤمنين:
إن تجاوز هذه الحالة من العنف الروحي تحتاج إلى حركة من المؤمنين الواعين الذين يملكون قوة العقل ومسئولية الإيمان ورسالية الدين وموضوعية الحجة وعمق البرهان بهدف إعادة النظر في طريقة إثارة الإحساس الديني في مشاعر المؤمنين، وفي تقديم المفردات العقدية والفقهية والتاريخية، حتى يمكن للتربية الدينية الحكيمة في الشكل والأسلوب والمضمون أن تمنح الواقع الديني والمذهبي المتعدد نوعاً من التوازن والموضوعية، بحيث تتحول الأجواء الفكرية بين هذا الفريق أو ذاك إلى حركة بحث عن الحقيقة على أساس الاستماع إلى الآخر الذي قد يكون له بعض الحق في قناعات فكره، لا على أساس تأجيج الصراعات وتسجيل النقاط على الخصوم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).