سطحية التفكير ـ الشيخ علي حسن ـ القاهرة

لماذا صدّق الناس الإشاعات عن نهاية العالم في 21 ديسمبر الماضي؟ لربما لم نشعر نحن كثيراً بتأثير هذه الإشاعة بسبب معطيات العقيدة الإسلامية والنصوص التي تتحدث عن علائم ما قبل نهاية العالم.. ولكنه سؤال طُرح عالمياً في وسائل الإعلام والمنتديات، وارتبط في جانب منه بقضية مهمة جداً وهي: سطحية التفكير عند الإنسان المعاصر.
تطور علمي ولكن!
فعلى الرغم من كل التطور العلمي والتعليمي في المناحي المختلفة، وعلى الرغم من كل الانفتاح المعلوماتي الرهيب الذي يغزو حياتنا، إلا أن سطحية التفكير ما زالت هي السمة الغالبة للإنسان المعاصر، لا الشرقي فحسب، كما يحاول البعض تصويره، بل في العالم أجمع.. ولا الإنسان المتدين بأي دين فحسب، كما يحاول الملاحدة تصويره، بل الإنسان كإنسان متديناً بدين أم متمسكاً بتفاهة الإلحاد.
وليست سطحية التفكير بالطبع في أصل الإيمان بنهاية العالم المادي بالصورة التي نعرفها، فهو أمر حقيقي، بل ونؤمن به، ولكن في ربطه بإشاعة وخرافة وأسطورة، بالمستوى الذي يجد فيه علماء الطبيعة والباحثون أنهم في مواجهة عدد هائل من الإيميلات التي عبر فيها أصحابها عن ذعرهم، ومئات المواقع على الانترنت التي زارها عشرات ملايين القرّاء لأنها تزعم بأن لديها (معلومات علمية مؤكدة) حول فناء الأرض في ذلك التاريخ.. كل ذلك أجبر علماء الطبيعة والفلك لكي يتعاملوا مع الأمر بشكل جدي وإيلائه اهتماماً أكبر، حتى نظموا المؤتمرات والمحاضرات!
سمات سحطيي التفكير:
أرى هنا من الضروري أن يتساءل المرء: هل أنا من سطحيي التفكير؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا غدوت بهذه الصورة؟ وما السبيل للخروج من هذا المأزق؟ لعل من أهم السمات التي تميز صاحب الفكر السطحي:
1ـ الفراغ أو عدم وجود نشاطات متنوعة أو هامة في الحياة، وفي الحديث النبوي: (إن الله يبغض الصحيح الفارغ، لا في شغل الدنيا، ولا في شغل الآخرة).
2ـ الاهتمام بصغائر الأمور، على خلاف ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يحب معاليَ الأمور وأشرافَها، ويكرهُ سفسافَها) والسفساف هو الأمر الحقير، والردئ من كل شئ.
3ـ التعصب وبالتالي عدم تحمل الرأي الآخر، بل وعدم القدرة على الإنصات إلى ذلك الرأي، فتارة يُكثر المقاطعة، وأخرى يعتبر الأمر شخصيا فينشغل بالدفاع عن النفس بدلاً من الفكرة نفسها، ولربما يلجأ إلى إهانة الآخر أو تسفيهه أو سبه، بل وحتى ضربه.
4ـ التصديق بما لا يقبله العقل، وقد قيل: (حدِّث العاقل بما لا يُعقل، فإن صدَّق فلا عقل له)، وهذا ينتج عن تعطيل دور العقل في تقييم الخبر أو البحث عن أدلته أو أسبابه.
وبإمكان الفرد أن يقيم نفسه ليكتشف إن كان يستجمع تلك السمات أم لا، ليعرف إن كان من المبتلين بالسطحية أم بمنجى منها.
أسباب السطحية في التفكير:
أولاًـ أسباب شخصية:
1ـ الكسل والاتكالية في كل شئ حتى في التفكير، فيكتفي الفرد بكونه متلقياً سلبياً يفتح رأسه لمن يصله أولاً.
2ـ الخوف وبالتالي تفضيل العمل بقاعدة (الباب اللي يجيك منه الريح سدّه واستريح) وقاعدة (المشي تحت الساس) وبتعبير آخر (بجنب الحائط)، فهو يرى ما يلقاه بعضاً من أصحاب الفكر والنقد من ملاحقة أو تشريد أو سجن وأمثالها.
3ـ تفضيل مصادر المعلومات المتسمة بذاتها بالسطحية ككثير من المجلات الاستهلاكية على مصادر المعرفة الفكرية والنقدية والبحثية. أذكر هنا كلاماً كتبه المرحوم الشيخ الوائلي في كتابه (تجاربي مع المنبر) قال: (جمهور الأعمال التي فيها أصالة ومعاناة دائماً أقلّ من جمهور الأعمال السطحية، فإنّ الذين يلاعبون قرداً قد يجمعون من الجمهور أكبر بكثير ممّا يجمعه اينشتاين إذا أراد شرح نظريته النسبية).
ثانياًـ أسباب تربوية:
1ـ اعتماد النظم التعليمية الخاطئة والاكتفاء بالشكل دون الجوهر، وأمثلته عديدة.
2ـ غرس الفكر الاستهلاكي والبحث عن الرفاهية والمتعة بعيداً عن جدية العمل والتفكير الذي يتعب الذهن.
ـ قتل منابع التحليل والتفكير والإبداع من خلال ردود الفعل السلبية من قبيل عدم الاهتمام، أو تحقير الرأي، أو المنع من السؤال، وأمثال ذلك.
ثالثاًـ أسباب ظرفية:
1ـ فائض المعلومات السطحية المنتشرة، وسهولة نشرها وتداولها بلحاظ التطور التكنولوجي.
2ـ الإعلام الذي ركّز على ما تريده الغرائز، وليس على ما تحتاج إليه المجتمعات في التنمية.
3ـ الإحباط الذي يكوّن قناعة راسخة عند الفرد أن لا فائدة من أي إنجاز، ولو كان من قبيل التنمية الفكرية أو إعمال العقل من أجل تحليل قضيةٍ ما.
استثمر عقلك:
إن وجود تلك الأسباب لا يقدّم المبرر الكافي للأُنس بسطحية التفكير والركون إليها، فقد خلق الله سبحانه الإنسان بفطرة باحثة عن الحقيقة، وبعقل جبار لا يستفيد الإنسان عادة من قدراته إلا بنسبة 2%، وكما أن التكنولوجيا المعاصرة ساعدت على نشر السطحية في التفكير، فإنها قدّمت أيضاً مادة معرفية ضخمة ميسّرة للجميع، تتضمن مئات الآلاف من الكتب بنسخها الإلكترونية، والعديد من القنوات الفضائية العلمية والثقافية، وسهولة اقتناء النسخة الورقية من الكتاب وغير ذلك.. وبالتالي فإن المشكلة هي مشكلة الفرد الذي يختار ما هو سطحي، ويركل ما يمكن أن يقدِّم إليه العلم والمعرفة والحكمة.. إن مشكلته في تعصبه الذي يمنعه من الاستماع إلى الآخر وإفساح المجال لعقله كي يفكر ويحلل ويستنتج ويفاضل.. إن مشكلته وإن كانت في جانب منها تعود إلى تلقيه تربيةً وتنشئة خاطئة، إلا أن المقوّمات الذاتية التي يملكها تمكّنه من أن يتمرد على تلك التربية والتنشئة ليبني لنفسه من جديد مساراً فكرياً سليماً ومتناسباً مع حجم الإمكانات التي أنعم بها الله سبحانه عليه، ويسأله عنها لاحقاً. وقد جاء عن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ).