خطبة الشيخ علي حسن غلوم حول البداء ج2


ألقيت في 22 مايو 2009
ـ (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرعد:39 البداء...
ـ من القضايا التي شغلت المسلمين، وتتلخص بكل بساطة في الآية، ولذا فهي من صلب العقيدة الإسلامية لأنها من النص القرآني وسنة النبي وراسخة في وجدان كل مسلم، وعليها يبنون بعض تصرفاتهم، ويأملون في تغيير واقعهم.
ـ دلالة الآية: قال القرطبي في تفسيره معنى الآية: (أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. ويثبت ما يشاء، أي يؤخره إلى وقته.. وقال ابن عمر: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت].. وعنده أم الكتاب الذي لا يتغير منه شئ... قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ توقيفاً، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم... وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: [اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب]... وقال كعب لعمر بن الخطاب: [لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب].. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مَن سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصِل رحِمه]).
ـ وفي تفسير الأمثل في معنى الآية: (يقول علماء الشيعة: إننا حينما ننسب البداء إلى الله جل وعلا فإنه يكون بمعنى "الإبداء" بمعنى إظهار الشئ الذي لم يكن ظاهراً لنا من قبل ولم يكن متوقعاً. وإن ما يُنسب إلى الشيعة بأنهم يعتقدون أن الله يندم على عمله أحياناً، أو يُخبِر عن شئ لم يعلمه سابقاً، فهذه من أكبر التهم).
ـ البداء في سنة النبي: روى البخاري في صحيحه: عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله يقول: (من سره أن يبسط له رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه). وروى الإمام أحمد في مسنده: قال رسول: (إن الرجل ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يردّ القدَر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا الِبر). وروى السيوطي في الإتقان عن ابن مردويه عن علي أنه سأل رسول الله عن هذه الآية فقال: (لأقرنَّ عينك بتفسيرها، ولأقرنَّ عين أمتي من بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها، وبِر الوالدين واصطناع المعروف تحوّل الشقاء سعادة وتزيد في العمر).
ـ علم الله والبداء في أحاديث أهل البيت: روى الشيخ الكليني في الكافي: قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: (لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء). وروى العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في تفسير قوله (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ): (فكل أمر يريده اللّه، فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل. وقال: من زعم أنّ الله عزّوجلّ يبدو له من شيء لم يعلمه أمس، فابرأوا منه).
ـ الاختلاف حول المصطلح: من خلال ما سبق يتبين أن الاعتقاد بمضمون البداء متفق عليه بين المسلمين، وأن المشكلة في المصطلح ذاته، حيث يوهم البعض بخلاف معناه المراد، علماً بأن النبي هو أول من عبّر عن الفكرة بنفس المصطلح، فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي: (إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم...). وإذا كانت في كتبنا أحاديث قد يُفهم منها خلاف ذلك، فهي مرفوضة، لأن القاعدة عندنا ما جاء في حديث الإمام الصادق المروي في وسائل الشيعة أنه قال: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه)، ولا يأخذ الشيعة بكل ما جاء في كتبهم، فقد كثر الكذابة عليهم كما كثروا على رسول الله وفق ما روي عنهم.
حادثة طريفة: كتب الشيخ جعفر السبحاني: (سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء، فأجبته بإجمال.. فتعجّب عن إتقان معناه، غير أنّه زعم أنّ ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية ـ الشيعة ـ الإمامية في البداء، فطلب منّي كتاباً لقدماء علماء الشيعة، فدفعت إليه ـ كتاب ـ أوائل المقالات، و ـ كتاب ـ شرح عقائد الصدوق لشيخ الأمّة محمّد بن النعمان المفيد فقرأهما بدقة، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال: لو كان معنى البداء هو الّذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً).
ـ المشكلة أحياناً ليست في ما تعتقد وفي ما تقول، بل المشكلة في أن الذي يناقشك لا يملك عقلاً يدرك ما تقول، أو قد أحكم إغلاق منافذ عقله، وأطلق العنان لأهوائه، فلا يعي ما تقول. وكما قال الإمام علي (وإن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالمَ إلا جهلاً) و (ما جادلت عالماً إلا غلبته وما جادلت جاهلاً إلا غلبني).
ـ وأتمنى أن تكون مخرجات نتائج انتخابات مجلس الأمة في بعض جهاتها ذات تأثير حقيقي على سير الحياة البرلمانية، فعدد أصحاب الشهادات العليا ازداد (حتى من الأخوات اللائي نهنئهن على ثقة الناخبين فيهن ونجاحهن) ويتوقع معه ارتقاء مستوى الحوار والقضايا التي تناقش، فعندما تناقش صاحب العقل وإن اختلف معك في الاتجاه قد تصل معه إلى نتيجة، لأن عقله يدله على ذلك، ولكن الأحمق والجاهل لن تصل معه إلى شئ، بل قد يحقد عليك كما قال أمير المؤمنين عليه السلام.