العبادة المظلومة ! الشيخ علي حسن

قد لا يتردد الإنسان أن يطلق على عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة (العبادة المظلومة) بلحاظ أن الصور والمعاني التي تتبادر إلى أذهان الكثير من الناس عند ذكر هذه العبادة هي صور ومعانٍ سلبية تتمثل في (العصا، والعنف اللفظي، والعبوس، والإحراج الاجتماعي، والعنف الجسدي .. إلخ).
النبي الرحيم:
ولا شك أن هذه الصورة غير منصفة.. فهل يشك أحد في أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نهض بمسؤوليته في هذا المجال بصورة تامة؟ ألسنا نشهد له في نصوص زيارته: (أشهد أنك قد بلغت الرسالة وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر)؟ ومع هذا نجد القرآن الكريم يتحدث عن النبي بهذه الصورة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159).
وهذا يعني أن الجمع بين الرحمة واللباقة والجاذبية من جهة، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى أمر ممكن جداً.. إذاً ما الذي أضفى على هذه العبادة هذه الصورة الممجوجة ـ حتى عند المتدينين ـ بينما تعطي الكثير من العبادات الصورة المقبولة، كالصلاة والدعاء؟
العامل النفسي:
أول هذه العوامل هو العامل النفسي، فهذه الوظيفة الشرعية لها علاقة بالآخر، وليست فريضة فردية كالصلاة والدعاء، تتم بين العبد وربه.. فمن يؤديها لا يدري ما ردود الفعل التي ستترتب على قيامه بهذه المسؤولية.
العامل التاريخي:
فقد مورست هذه الوظيفة في التاريخ الإسلامي في أحايين كثيرة بصورة غليظة ارتبطت بالعصا والعقوبة والكلمة العنيفة، كما أنها مورست بصورة مزاجية بحيث استثنيت منها طبقات معينة، مما رسّخ هذه الصورة السلبية في الأذهان.
العامل الثقافي:
حين نُبقي هذه المسؤولية ـ من خلال خطابنا الديني ـ في دوائر محدودة وعناوين ضيقة تجعلها حبيسة الماضي بظروفه ومعطياته، ولا نوائمها من حيث التعبير عنها، ومن حيث وسائلها، ومن حيث بيان مدياتها وتأثيراتها، مع متغيرات العصر ومتطلباته.. فهل يمكن أن نتجاوز ذلك كله؟
وسائل التواصل الحديثة:
لو دققنا قليلاً سنلاحظ أن التقنيات الحديثة قدّمت حلاً عملياً للخروج من تأثير العامل النفسي، إذ يمكن لأي فرد اليوم من خلال (الوتساب) و(التويتر) مثلاً أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يواجه الناس بصورة مباشرة، فيتجنب ما يتخوف منه من ردود الفعل السلبية بصورة كبيرة، خاصة إذا لم يحب أن يعرّف عن هويته، فالمهم عنده أن يوصل الرسالة المفيدة البنّاءة.. بالطبع، المسألة حساسة جداً، فهي سلاح ذو حدّين، ومن الممكن توظيفها بشكل سلبي، ولذا على الفرد أن يكون دقيقاً ومسؤولاً في ذلك، بحيث يتجنب ما من شأنه إحداث الفتنة، أو الترويج للمنكر، أو إلحاق الضرر بالمجتمع أو بالأفراد، أو تحويلها إلى وسيلة للغيبة أو النميمة أو البهتان.. إلخ.
رحابة الأفق:
أما بالنسبة إلى العامل الثقافي فلابد أن نلحظ أن القرآن الكريم لم يحبس هذه المسؤولية في دائرة الحجاب والصلاة وتناول المسكرات وأمثال ذلك فقط، بل جعل مجال المعروف كل الحياة، ولذا نجد حضور عنوان (المعروف) في الدائرة الاجتماعية كما في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241)، وفي إدارة شؤون المجتمع: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ومن هنا فإن قضايا من قبيل حقوق الإنسان، الحريات العامة، الحفاظ على البيئة، الفساد السياسي، الفساد الإداري، تعطيل مصالح الناس، الفساد الإعلامي، العنصرية القومية والطائفية والقبلية، وغير ذلك من العناوين التي تطرح بلغة العصر في ما يمس حياة الناس، كلها تدخل في عنوان المعروف أو المنكر، ومن ينهض لمعالجة تلك الأمور إنما ينهض ضمن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مجلس الأمة:
ومن هنا نستطيع القول أن الدور التشريعي والرقابي المفترض بمجلس الأمة أن ينهض به، يمكن النظر إليه كنوع من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن نجح من المرشحين لعضوية مجلس الأمة يفترض بهم أن يعوا هذه الحقيقة، ويكون من منطلقات فاعليتهم النيابية.
اليوم هناك قضايا كثيرة تنتظر السادة الأعضاء أن يتحركوا عليها بكل جدية ومن موقع المسؤولية وفي إطار الدستور وبلحاظ مواءمة معطيات الانتخابات الأخيرة.. ولعل أبرز تلك القضايا هي:
1ـ تأسيس محكمة جعفرية متكاملة (درجة أولى واستئناف وتمييز)، بلحاظ أن الموجود حالياً هو قضاة جعفريين، ويحكمون وفق الفقه الجعفري، إلا أنه لا توجد محكمة خاصة بالجعفرية.
2ـ تعديل اللائحة التنفيذية لقانون الزكاة بما يمكّن التاجر الكويتي الشيعي من توظيف زكاته لو أراد في مصارف إدارة الوقف الجعفري، كما يتمكن سواه من توظيفها في بيت الزكاة، علماً بأنها ستكون بالتالي تحت الرقابة الحكومية وبما يخدم المجتمع الكويتي.
3ـ الانتهاء من قضية تخليص مناهج التربية الإسلامية من الروح التكفيرية.
4ـ حسم مسألة التمييز في الموافقة على تخصيص المساجد واحتكار المواقع المخصصة لها وإدخالها في دهاليز الروتين المفتعل.
وإذا كان ما سبق يمثّل جانباً من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملقاة على عاتق نوّاب المجلس، فإن مسؤولية مماثلة وفي نفس إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقع على عاتق الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم وأوصلوا المرشحين إلى بيت الأمة، وهي مسؤولية الرقابة على أداء النوّاب ومحاسبتهم في حال التقصير.
ضريبة التقاعس:
إن التقاعس عن النهوض بهذه المسؤوليات بأشكالها المختلفة يحمّلنا تبعات خطيرة تكون بمثابة النتائج الطبيعية لتخلي الفرد والمجتمع عن تحمل مسؤولياته العامة على المستوى السياسي والإداري والاجتماعي والثقافي والتعليمي والإعلامي. وما أوضح كلمة أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال في الخطبة القاصعة: (وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الأمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ تَعَالَى وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بَأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الأمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَالْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ الْتَّنَاهِيْ).