خطبة الجمعة 1 صفر 1434 هـ ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: المعطيات السلبية للانتخابات الأخيرة


(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53) ـ لمعطيات الانتخابات الأخيرة لمجلس الأمة آثاراً إيجابية في بعض النواحي، وآثاراً سلبية في نواحٍ أخرى، على المستوى الوطني العام، وعلى المستوى الشيعي الخاص.. وهذا شئ طبيعي، إذ نادراً ما تجد في الحياة أوضاعاً يتحقق فيها الخير المحض والإيجابية المطلقة والتوافق التام بين المعنيين بها.
ـ ولكن بعض هذه السلبيات قد تتفاقم إذا ما أُهِملت ولم تُشخَّص ولم تُعالَج، بل قد تتحول إلى أمراض اجتماعية أو سياسية أو سلوكية مزمنة، ولربما تتولَّد عنها سلبياتٌ ذات أبعاد أخرى وآثارٌ أكثر تعقيداً.
ـ ومن هنا سيكون من القصور أن نستغرق في الإيجابيات وفي الفرح الساذج الذي يجعلنا نعيش الغفلة وننسى سننَ الله وقوانينَه في المجتمعات، بل ولربما نعيش الفرح الممقوت: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:52-53).
ـ وأرجو أن يؤخذ كلامي بعمومياته، دون أن يُفسَّر بأن المقصود منه الجهة الفلانية، أو الجماعة العلانية، أو الموقف الكذائي. فكلامي قد ينطبق على قضية تمس الشأن العام، وقد ينطبق على ما يمس وسطنا الشيعي.. كما قد تنطبق على بعض المفردات دون أخرى.
1ـ أن الإنسان عندما يعيش نشوة الانتصار ينسى ما كان يعاني منه عندما كان في موقع الضعف، وينسى الشعارات التي كان يرفعها، من قبيل المساواة في الحقوق، والمشاركة في الوطن، وما أشبه ذلك.. ليكرر ـ بالتالي ـ نفس الأخطاء، وليأتِ ـ من خلال موقعه المتقدم ـ بما كان يعيب به على الآخرين، تماشياً مع الروحية الإقصائية.. فأين المصداقية؟ وعلى الأقل فلنتذكر سنة الله في الحياة: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140). فلا هذا الموقع المتقدم باقٍ، ولا هذا الانتصار سيُكتَب له الدوام والخلود، وليس في عالم السياسة صديق دائم، ولا عدو دائم. ولذا فمن المفترض أن يتم بناء المواقف والاستراتيجيات وفق هذا المنظور.
2ـ بروز روحية الانتقام والتشفِّي مِن قبل مَن بات يمتلك عناصر أو مواقع قوة، وفي المقابل الوعيد بالانتقام والتشفي ممن يعيش حالةً من الضعف والإقصاء.. ولنتذكر جميعاً ككويتيين أننا تعلمنا في مدرسة رسول الله(ص) موقفَه عند فتح مكة حيث قدّم لنا درساً بليغاً في العفو عند المقدرة.. ولنتذكر ـ كشيعة لأهل البيت(ع) ـ أننا تعلمنا في مدرسة الإمام زين العابدين(ع) موقفه عند عزل والي المدينة الذي أجرم بحق الإمام والكثيرين حتى إذا جاءت الفرصة ـ وما أحلاها من فرصة ـ حيث أمر الأمويون بإيقافه في ساحة عامة ليتشفّى به مَن شاء من أهل المدينة، فإذا به يوصي أصحابه ومواليه وخاصته أن لا يتعرضوا
له، ثم جاء إليه وكلَّمه وقال: (يا ابن عم، عافاك الله، لقد أساءني ما صُنِع بك، فادعُنا إلى ما أحببت).
3ـ استحكام الذاكرة قصيرة المدى، وعدم التعلم من التجارب الماضية. ونحن مدعوّون إلى ذلك، وقد قال أمير المؤمنين علي(ع): (رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، وَ اعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، وَ أَبْصَرَ فَازْدَجَرَ، وَ عَايَنَ إِدْبَارَ مَا قَدْ أَدْبَر، وَ حُضُورَ مَا قَدْ حَضَرَ). وفي حكمة أخرى: (في التجارب علم مستأنَف، والاعتبار يفيدك الرشاد) وفي تبدّل مواقف الحكومات المتعاقبة مع متغيرات موازين القوى خير شاهد على أن دوام الحال من المحال، وأن من كانت أسهمه مرتفعة اليوم قد لا يشتريها أحد في يوم ما، وإنَّ لمن السذاجة أن يبرمج أحدُنا أوضاعه على طريقة الذي يتكسب اكتفاءً بقوت يومه، فلا يخطط للمتغيرات ولا ينظر إلى المستقبل.
4ـ التعصب الأعمى للذات أو لشخص أو لحزب أو لمذهب أو لعرق أو لقبيلة أو لغير ذلك، التعصب الذي يُنسينا التاريخ المشترك، والعيش المشترك، التعصب الذي يُنسينا نقاط الالتقاء الكثيرة، ويجعلنا نحدِّق في نقطة اختلاف، لا هي من أصول الدين، ولا هي من فروعه.. ولكنها نفثة الشيطان: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ). وما أروع وصف علي(ع): (.. فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لأمْرٍ، مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ.. فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَمَحَامِدِ الأفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأمُورِ.. واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ بِسُوءِ الأفْعَالِ، وَذَمِيمِ الأعْمَالِ).
وأي شئ أسوأ من الفرقة والتنازع بعد الألفة والمحبة والتآخي؟! تعصُّبٌ يُنسينا قِيَمَنا ومبادئنا وأخلاقَنا وآدابَنا وأخوَّتنا الإيمانية، إلى المستوى الذي يُعابُ فيه على الإنسان حين يعود أخاه المؤمن المريض أو يشيع جنازته أو يتواصل معه اجتماعياً، بذريعة أنه يختلف معه في الهوى السياسي! فقُبحاً لهذه السياسة، وقُبحاً لهذه المنافسة، وقُبحاً لهذه التحزّبات المقيتة، وقبحاً لهذه الأهواء المضِلَّة التي جعلت الدينَ لَعِقاً على ألسنتنا نحوطُه ما وافق أهواءَنا وتحزباتِنا وعصبياتِنا، فإذا مُحِّصنا قلَّ الديَّانون! إن المرء ليأسف أن يرى علاقتنا بالإسلام وبالتشيع علاقة قشرية لا تنفذ إلى وعينا وسلوكياتنا ومشاعرنا.. علاقةً نحجّمها في إطار التفاخر والتباهي والتغني بأمجاده والتبرك بقادته، دون أن نقتدي بأوليائه، ولا نستن بسننهم! إن الالتزام شئ، والتعصب شئ آخر.. إن الالتزام بما يراه المرءُ حقاً وقامت عليه الحجة عنده يمثّل قيمةً من قِيَم الإسلام، وأمراً من أوامر الله.. وأما التعصّبُ فإنه يُعمي البصيرة ويدفع إلى التفريط بالقيم والمبادئ، ويفتح للشيطان أبواب الوساوس الخبيثة، فالشيطان إمام المتعصبين ـ كما قال أمير المؤمنين علي(ع) ـ وواضعُ أساس العصبية. إن الله أعطاك الحق في أن تخالفني الرأي، وأعطاني الحق في أن أخالفك القول، ولكنه لم يعطنا الحق في أن نتنازع ونتصارع ونتفرّق بعد أن ألَّف بين قلوبنا: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران:103-105.