تعالوا .. باهلوني - الشيخ علي حسن

قال تعالى في كتابه الكريم: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) آل عمران:61.
ترتبط هذه الآية بحادثة المباهلة التي جرت في شهر ذي الحجة من العام التاسع للهجرة (عام الوفود)، وخلاصة الحادثة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتاباً إلى أساقفة نجران جاء فيه: (أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، أدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتُم فقد أذنتم بحرب، والسلام). فشكَّلوا وفداً كبيراً وتوجهوا إلى المدينة المنورة ودخلوا المسجد النبوي وبدؤوا بضرب نواقيسهم ثم الصلاة على طريقتهم، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال دعوهم. فلما فرغوا دنوا من رسول الله وبدأ الحوار، ولما سألوا النبي عن والد عيسى(ع) نزلت الآيتان: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ) آل عمران:59-60 جواباً على سؤالهم، واستمر الحوار إلى أن وصل إلى طريق مسدود، فطلب النبي منهم أن يباهلوه، فوافقوا، حتى إذا كان الموعد المحدد خرج النبي بأحب الناس إليه، علي وفاطمة والحسن والحسين، وعلم وفد نصارى نجران أن من يقدِّم هؤلاء الذين ملأت هيبتُهم القلوب لاشك أنه مطئمن بأنه على حق، ولذا قرروا الانسحاب من المباهلة وفضّلوا المصالحة مع إعطاء الجزية والبقاء على دينهم.
ترتيب الأولويات:
وإذ كان المبدأ في استعادة هذه الذكريات، ليس مجرد الاحتفال بها والاحتفاء بأصحابها، بل وفق القاعدة القرآنية: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) يوسف:111، فإنه يمكن الخروج من دراسة مجمل هذه الحادثة بعدة نقاط عملية:
ـ أولاً، ترتيب الأولويات وفق المصلحة العامة، فقد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقاتلهم، ونحن نتحدث عن حال المسلمين بعد فتح مكة والانتصار في حنين وحصار الطائف وغير ذلك مما دفع الوفود زرافات من أنحاء الجزيرة العربية للدخول في الإسلام ومبايعة النبي على الدخول في حكمه، وفي المقابل فإن القوم كانوا من المزارعين وأصحاب صناعة وتجارة، إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك، وفضّل أن يصالحهم، فإنها إن لم تؤد إلى هدايتهم فيما بعد، فعلى الأقل سيتحقق السلم الأهلي في موقع من مواقع الجزيرة العربية.
تحكيم العقل:
ـ ثانياً، تحكيم العقل في التعامل مع الاستفزاز والتحدي الذي مارسه الوفد بقرع النواقيس في المسجد وتلاوة صلواتهم دون استئذان، فلم يستسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحالة انفعالية، بل وعمد إلى تهدئة المسلمين الذين أثارهم هذا التصرف.
سعة الصدر:
ـ ثالثاً، سعة صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي أسئلة الوفد، ولك أن تتخيل الموقف بلحاظ الظرف التاريخي الذي يمثل قمة انتصار قائد حاك الجميع المؤامرات ضده، وتجيشت الجيوش للتخلص منه وإجهاض مشروعه.. في مثل هذا الظرف يأتي هذا الوفد ويستفز ويتحدى ويسأل بكل أريحية دون خوف، بل ويقبل أن يدخل في مباهلة. كل هذا لأن الأساس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي مسألة الهداية لا مسألة القهر ولا الغلبة ولا السلطان، ولأن باب الحوار عنده مفتوح على مصراعيه مادام الأمر في نطاق البحث العلمي والبحث عن الحقيقة، فلا أسئلة ممنوعة، ولا قضية محرّمة، بشرط احترام أسس الحوار والبحث.
المرونة في التعاطي:
ـ رابعاً، المرونة في التعاطي مع الحدث، والبحث عن حلول بديلة تحقق النتائج المرجوة ـ أو بعضها ـ ولو بعد أمد.
مكانة أهل البيت:
ـ خامساً، التأكيد على المكانة العظيمة لأهل البيت عليهم السلام، ففي صحيح مسلم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب، قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لئن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، و يحبه الله و رسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً فأتي به أرمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ففتح الله على يده. و لما نزلت هذه الآية: قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل، دعا رسول الله علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي).
استلهام عِبَر المباهلة:
إننا وإذ نسترجع حادثة المباهلة فإننا نستلهم معطياتها في الواقع الذي نعيشه، لاسيما بلحاظ الأجواء السياسية المشحونة والمحتقنة التي تعيشها المنطقة:
ـ أولاً، أن هذه القيمة العليا والمكانة الرفيعة التي أدركها الصحابي سعد بن أبي وقاص لعلي خصوصاً، ولفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام عموماً كما في نهاية الخبر، تؤكد على أنها من المشتركات بين المسلمين، وبالتالي فإن من المستغرب أن تجد ردة فعل سلبية من البعض تجاه إحياء ذكرياتهم، وفي المقابل فإن من الخطأ أن يطرح البعض قضاياهم، ومنها إحياء ذكرى الثورة الحسينية وكأنها قضية شيعية أو أنها ثورة ضد أهل السنة أو ما شابه، فثورة الحسين كانت ضد الظلم والباطل والفساد، ولم تكن ثورة مذهبية.
ـ ثانياً، أننا في الوقت الذي نؤكد فيه على ضرورة التشجيع على البحث والحوار العلمي كما جاء في المادة 36 من الدستور ونصُّها: (حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة، ولكل انسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما، وذلك وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون)، إلا أنه لابد من التعاطي مع الظرف الآني بحكمة بالابتعاد عما يمكن أن يقدِّم الذريعة للبعض لاستغلال ذلك ـ ولو من خلال التضخيم ـ لتحقيق مآرب معينة تخل بالمصلحة الإسلامية العليا ويعود فيها الضرر على الجميع، علاوة على ضرورة تحكيم العقل وعدم الانجرار وراء أية استفزازات قد يعمد البعض من الطرفين على خلقها.
ـ ثالثاً، أن الكويت وقد احتفلت بالذكرى الخمسين لإقرار دستورها، لابد وأن لا تقتصر في تعاملها مع الذكرى من منطلق الاحتفال وتفعيل أجواء البهجة فقط، بل ومن خلال الدراسة الواعية لقيمة وجود هذا الدستور الذي يمثل الضمانة الحقيقية لأمن واستقرار ورخاء هذا الوطن.. صحيح أن الجميع يقر بأنه لا يمثل الطموح الكامل، وكلٌّ من وجهة نظره، وهذا شئ طبيعي، إلا أن القاعدة الحكيمة تقول أنَّ ما لا يُدرك كله لا يُترك جُلُّه، فلنعمل على أن يكون هذا الدستور الذي احتفلت كل الأطراف بذكرى إقراره هو الوسيلة لخروج الكويت من الأزمة السياسية التي تعصف بها، والتي وإن تهدأ فورتُها في بعض الأحايين، إلا أن أسباب هيجانها من جديد ستبقى فاعلة ولابد من معالجتها بحكمة.