أسرى كربلاء : الشيخ علي حسن


تحدث القرآن عن النظرة إلى أسرى العدو الكافر في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنفال:70.
وخلاصة الفكرة أن الإسلام ينظر إليهم نظرةً رسالية، ولهذا فليُفتَح لهم بابُ الخير من خلال التفكير بالمستقبل، وليتأملوا في موقفهم السابق، فإن اختاروا الموقف الصحيح بالدخول في الإسلام والانتهاء عن الأعمال العدوانية، فسيؤتيهم الله خيراً مما أخذ منهم من المال، رزقاً وعنايةً، ومغفرةً للذنوب. وهذا التوجيه الرسالي كان يقابل صوراً وحشية كانت دارجة في أمم ذلك الزمان في طريقة التعامل مع الأسرى، فمنهم من كان يقدِّم الأسرى قرابين للآلهة، ومنهم من كان يمارس فنون التعذيب فيهم ترفيهاً عن النفس، فيضعونهم في ساحات مغلقة مع الأسود والنمور لتفترسهم على مشهد من علية القوم!
أحاديث رائعة:
ولدينا نصوص إسلامية عديدة تؤكد ضرورة حسن معاملة الأسير، مسلماً كان أم غير مسلم، ومنها:
قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الإنسان:8. فهنا إيثارٌ للأسير على
النفس والعيال، علماً بأن مورد الآية كان أسيراً غيرَ مسلم.
عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: (إذا أخذت أسيراً فعجز عن المشي وليس معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه).
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إطعام الأسير حق على مَن أسره، وإن كان يراد من الغد قتله ـ أي في أسوأ الحالات ـ فإنّه ينبغي أن يُطعَم ويُسقى ويُرفق به، كافراً كان أو غيره). علماً بأن الأسير لا يُقتَل إلا في حالات خاصة جداً يقررها الحاكم الشرعي.
قال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر: (ينبغي أن نلاحظ أن إطلاقه مجاناً أو بالفداء لا ينبغي أن يصيّره إلى ضرر، بل يجب أن يضمن له الأمان في الطريق الى أن يصل إلى مأمنه).
الإسلام والقانون الدولي:
وإذا لاحظنا أن القانون الدولي بشأن حقوق الأسرى قد بدأ في العام 1863 م، وتطور تدريجياً إلى ما هو عليه الآن، فإننا نقول بكل وضوح أن الإسلام سبق المجتمعات البشرية بقرون مديدة في وضع تشريعات خاصة بالأسرى تتضمن العديد من الحقوق والآداب.
ولذا نجد في تاريخ الطبري عن جندب الأزدي: (أن عليّاً عليه السلام كان يأمرنا في كلّ موطن لقينا فيه عدوّا فيقول: لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فأنتم بحمد اللّه عز و جل على حجّة، و ترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجّة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تُجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثِّلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً و لا تدخلوا داراً إلاّ بإذن، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيِّجوا امرأة بأذي و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم).
هكذا هو الإسلام، وهكذا كان سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلوك آله عليهم السلام وتوصياتهم، وفي المقابل نجد كل الوحشية في سلوك أعدائهم، وبحق مَن؟ بحق آل النبي وذريته وحُرَمِه!
صفية وزينب:
لما أسِرت السيدة صفية بنت حيي وامرأة أخرى معها في خيبر، أرسلتا مع بلال إلى رسول الله(ص)، فمر بهما على قتلى اليهود، فلما رأتهم التي مع صفية صرخت وصكَّت وجهَها وحثت التراب على رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلال: (أنُزِعَت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟).
هذا مشهد، وفي كربلاء مشهد آخر.. تبلور بعد عهد الخلافة الراشدة، حيث تبدلت القيم والمفاهيم الإسلامية، ورجعت عادات الجاهلية وتقاليدها.. إذ يروي الطبري عن قرة بن قيس التميمي عما جرى بعد استشهاد الحسين عليه السلام وأخذ حرائر بيت النبوة والأطفال أسرى، قال: (نظرتُ إلى تلك النسوة لما مررن بحسينٍ وأهلِه وولدِه صِحنَ ولطمن وجوهَهن. قال: فاعترضتُهن على فرس... قال: فما نسيت من الأشياء لا أنسى قولَ زينب ابنةِ فاطمة حين مرَّت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول: يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعرا، مرمَّل بالدِّما مقطَّع الأعضا. يا محمداه وبناتُك سبايا، وذريتُك مقتّلة، تَسفي عليها الصبا. قال: فأبكت واللهِ كلَّ عدوٍّ وصديق. قال: وقَطف رؤوس الباقين، فسَرَّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمر بن الحجاج وعزرةَ بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد).
تلك هي مدرسة الإسلام وهذه هي مدرسة الجاهلية التي نهض الحسين عليه السلام ليجاهدها ويعيد أمة جده إلى قيمها الأصيلة وقد قال: (وإنِّي لم أخرج أشَراً ولا بَطَراً ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي صلى الله عليه وآله، أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرَ بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي طَالِب).
موقف الصاحبي سعد بن سهل:
في لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين عن الصحابي سهل بن سعد الساعدي الأنصاري أنه قال: (خرجت إلى بيت المقدِس حتى توسطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: ترى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن؟ فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا قوم، لكم بالشام عيدٌ لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ، نراك غريباً! فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم. قالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا يخفف بأهلها. قلت: ولم ذاك؟ قالوا هذا رأس الحسين عترة محمد صلى الله عليه وآله وأهله يُهدى من أرض العراق! فقلت: واعجبا! يُهدى رأس الحسين عليه السلام والناس يفرحون؟ قلت: من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فبينا أنا كذلك حتى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء، فدنوت من أولهن فقلت: يا جارية، من أنتِ؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألك حاجة إلي؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمعت حديثه. قالت: يا سهل، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدِّم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حُرِم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تُقدِّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، ودفعت إليه ما وعدته).