ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة11


(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173). ـ يتعرض الإنسان إلى مواقف عصيبة وأزمات شديدة قد تدفعه إلى الخوف أو التردد أو الانهزام أو الجزع أو القلق، وهذا يعني تحطّم كل ما في النفس من استعداد للمقاومة والثبات.
ـ ومن أهم مفاتيح التغلب على ذلك كله يكمن في القوة الروحية الذاتية، فهي تمدّ الإنسان بأسباب تجاوز تلك الأزمات، وتعطيه زخَماً معنوياً يمكّنه من الثبات وأداء وظيفته بصورة شبه طبيعية، بل وقد تمدّه بقوة إضافية يحوّل من خلالها نقاط الضعف إلى قوة، والموقف السلبي إلى إيجابي، والهزيمة إلى نصر.
ـ وقد يلجأ الخصوم أو الأعداء إلى أساليب من الحرب النفسية تسعى لتدمير الروح المعنوية وتفريغها من منابع قوتها، ومن بينها:
1ـ تهويل صورة الخصم ليشعر المطَّلِع عليها أن لا مجال للمواجهة وأن الهزيمة هي النتيجة الوحيدة المترتبة على ذلك، ولذا فإن المواجهة انتحار لا غير. قال تعالى في وصف الأوضاع السابقة لمعركة أحد (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173). ـ وهذا مما صنعه ابن زياد في الكوفة، قال المفيد في الإرشاد: (وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم، ثم أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل العصيان الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم. وتكلم كثير حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدا: لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى له بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جنت أيديها. وتكلم الأشراف بنحو من ذلك. فلما سمع الناس مقالهم أخذوا يتفرقون، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف، فيذهب به فينصرف. فما زالوا يتفرقون حتى أمسى ابن عقيل وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفسا في المسجد).
2ـ ادّعاء الخصم ـ كذباً ـ امتلاك الشرعية الأرضية أو الامتداد السماوي الذي يخوّله ارتكاب ما يشاء بحجة تحقيق عناوين برّاقة من قبيل: السلام، الوحدة، إرادة الله، التكليف الشرعي، القضاء على الفتن..إلخ. قال تعالى واصفاً التبرير الذي ساقه فرعون لقتل النبي موسى(ع): (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26). 3ـ السخرية والاستهزاء بالمقوّمات الذاتية أو الخارجية عند الطرف الآخر، أو محاولة إنكارها، قال تعالى (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (الزخرف:51-53). 4ـ الاتهام زوراً بوجود نوايا سيئة أو مخالفة لتلك المعلنة أو استبطان مصالح شخصية من وراء ذلك، قال تعالى في تفاصيل مواجهة فرعون وأتباعه مع النبي موسى(ع): (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طـه:63). ـ وقد سعى الإمام الحسين(ع) إلى تأكيد الخطوط العامة لثورته مبيّناً أنها تنطلق من كتاب الله تعالى وسنة نبيه(ص)، وهو ما عبّر عنه في بيان له: (أيّها الناس، إنَّ رسولَ اللَّهِ (ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغيرْ ما عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه. وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولّوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر).
ـ نفس هذه الأساليب السابقة حاول الأمويون استخدامها لإجهاض ثورة الإمام الحسين(ع) بعد استشهاده، خوفاً من أن يتعاطف الناس معها، وسعياً لحرف الرأي العام عن أهدافها الحقيقية.
ـ لذا عندما انتهت معركة كربلاء باستشهاد الإمام وأنصاره عليهم السلام، بدأت معها مسئولية ضخمة وقعت على عاتق السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها الزهراء فاطمة عليهم السلام، وتمثّلت في مواجهة الحكم الأموي الذي سعى إلى تصوير الإمام الحسين ومن معه بأنهم خوارج أو من طالبي الملك، كما سعى لتطويق أهداف الثورة الحسينية وتفريغها من محتواها الأصيل، وبطرق عدة لا تبتعد كثيراً عما قدّمناه حول أساليب الحرب النفسية.
ـ وقد تحمّلت السيدة زينب(ع) هذه المسئولية بما امتلكته من حكمة محمدية وشجاعة علوية ورباطة جأش وبصيرة نافذة وقوة شخصية وذهنية متوقدة وعلم غزير أن تُحبط وأمام جموع الناس وفي مجلس والي الكوفة عبيدالله بن زياد. والنص التاريخي التالي يبرز الصورة بوضوح، مع ملاحظة أن السيدة زينب ومن معها من نساء وأطفال أهل بيت النبي في حالة سبي وإذلال متعمَّدَين أمام حاكم يعتبر نفسه منتصراً: (أقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهرنا من الرجس تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله. فقال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
ـ وتكرر المشهد في الشام في قصر الخلافة، واستخدم يزيد بن معاوية ذات الأساليب النفسية التي استخدمها ابن زياد من قبل، فلقي رداً حاسماً من عدد من أهل البيت من بينهم السيدة زينب التي انبرت بكلمات بليغة قائلة ـ مع الاختصار ـ : (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الأسراء أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ"؟.... فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، يأخذ بحقهم "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد؟ يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين...).
لقد كانت خطبة العقيلة زينب(ع) كافيةً لأن تُخرس يزيد وتعيد كيدَه إلى نحره وتفضحه أمام الملأ، بمن فيهم سفراء الأمم الأخرى الذين أراد يزيد أن يتباهى أمامهم بانتصاره و قوته، فإذا به عاجز عن قرع الحجج التي ساقتها، والمنطق الذي ذكّر الحضور بمنطق أبيها علي (ع) قوةً وبلاغةً وبياناً.
السلام عليكِ يا مولاتي يا عقيلة بني هاشم.. السلام عليكِ بما صبرتِ و جاهدتِ.. أشهد أنكِ قد أمرتِ بالمعروفِ ونهيتِ عن المنكر.. اللهم إني أبرأ ممن ظلم محمداً وآلَ محمد. وإنا لله وإنا إليه راجعون. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.