ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة العاشرة


ـ (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) (الأحزاب:10)
ـ يقدِّم القرآن صورة لموقفين متضادين في جيش النبي(ص) في واحدة من أحلك الظروف التي مرَّ بها المسلمون والمتمثلة في المواجهة مع جيش ضخم متنوع التشكيل، هو جيش الأحزاب في يوم الخندق: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا، لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا).
ـ وفي المقابل نجد صورة مغايرة تماماً تتمثل في نفس الظرف: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)الأحزاب:10-23.
ـ مجموعة تتخلى في أحلك الظروف وتعيش كل القلق والخوف ويتضعضع إيمانها في أوليات عقيدتها وهي التوحيد.. ومجموعة أخرى تعتبر أن الموقف تصديق للوعد الإلهي، ولذا تترجم هذا التصديق إلى موقف عملي بالثبات والاستعداد للتضحية، ولذا قال عنهم: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بصِدْقِهِمْ)الأحزاب:24.
ـ وهذه هي الصورة المتكررة تاريخياً بتكرر الظروف: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) واستجاب الله لهم، وأرسل طالوت ملكاً يقاتلون تحت لوائه: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة:249.
ـ نفس هذه الصورة المتناقضة نجدها في مسير الإمام الحسين(ع) من المدينة فمكة فالعراق، حيث التحق به المئات من الرجال بمن فيهم من التحق به في الطريق.
ـ روى الشيخ المفيد في الإرشاد عن رجلين من بني أسد كيفية قدومهما على الإمام وإخبارهما له عما جرى في الكوفة لمسلم: (فأقبلنا حتى لحقنا الحسين صلوات الله عليه فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام، فقلنا له: رحمك الله، إن عندنا خبراً، إن شئت حدثناك علانية، وإن شئت سراً، فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: ما دون هؤلاء ستر). ونقلا له ما بلغهما من مقتل مسلم وهانئ بن عروة فقال(ع): (إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما. يكرر ذلك مراراً، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: ما ترون؟ فقد قُتل مسلم. فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين عليه السلام وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار الله لك، فقال: رحمكما الله. فقال له أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فسكت ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء. فاستقوا وأكثروا ثم ارتحلوا، فسار حتى انتهى إلى زبالة. فأتاه خبر عبد الله بن يقطر، فأخرج إلى الناس كتاباً فقرأه عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، و عبدالله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام. فتفرق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممن انضووا إليه. وإنما فعل ذلك لأنه عليه السلام علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما اتبعوه وهم يظنون أنه
يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون).
ـ هذا مشهد ومشهد آخر في ليلة العاشر من المحرم حين جمع الإمام (ع) كلَّ أصحابه وأهلَ بيته وقال لهم: (اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حل من بيعتي ليست لي في أعناقكم بيعة ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً).
ـ ولما كان أصحاب الإمام ممن سمعوا هذا الكلام من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فإنهم لم يزدادوا إلا بصيرة وإصراراً وعزيمة، كقول مسلم بن عوسجة: (أنحن نخلي عنك ولما نعذِر الله في أداء حقك؟) وقول سعيد بن عبدالله الحنفي: (والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أذر ويفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك) وقول زهير بن القين: (والله لوددت أني قتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك).
ـ إن خطاب الإمام الحسين(ع) في ليلة عاشوراء بأصحابه وما عرضه عليهم يؤكد ضرورة أن يكون مَن يجعل نفسه في الموقع القيادي صريحاً مع قواعده، واضحاً في مسيرته، صادقاً في أقواله، وإن كان ذلك قد يكلفه أحياناً ضريبة ما، إلا أنه سيفوز بالتفاف الصادقين حوله إلى درجة الاستماتة في نصرته.
ـ في عهد أمير المؤمنين(ع) لمالك الأشتر: (وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك) ابرز لهم، و بيِّن عذرك فيه، و هو من الإصحار: الظهور، و أصله البروز في الصحراء (واعدل عنك) نحِّ عنك (ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك) تعويدا لنفسك على العدل (ورفقا برعيتك، و إعذارا) تقديم العذر أو إبداؤه (تبلغ به ‏حاجتك من تقويمهم على الحق).
ـ هكذا كان الإمام الحسين(ع) صريحاً بحقيقة الأمر، وأعطى أنصاره الحرية وأوضح لهم الرؤية، وهذا هو أسلوب الحسين، الصراحة.. فكم هي صريحة وواضحة في هذا العصر تلك القيادات الإسلامية وغير الإسلامية العاملة في الساحة مع الناس؟
ـ وبتعبير المرحوم سماحة السيد فضل الله: (أحرجوا كل الذين يتعاملون في قضايا المصير، أحرجوهم حتى يكشفوا الحقيقة في الزوايا حتى يعرّفوكم كل شئ.. إن الأمة التي لا تعيش الوضوح، ستظل تترنح بين القيادات والخطوط لأنها تُخدَع بالكلمات. إن الله علمنا النظر إلى المواقف وليس إلى الكلمات. علينا أن نكون واعين جيداً فنرتبط بالمواقف لا بالكلمات، لأن الكثيرين عندنا يتقنون فن التمثيل بالكلمات.. عيشوا الوعي وعيشوا النقد للأشخاص والكلمات: النقد والوعي للخطوات السياسية حتى نستطيع أن نمسك أرضنا من الاهتزاز والضياع).