ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة التاسعة


ـ نبحث في هذه الليلة مسألة تأتي في جانب منها في سياق ما بحثناه خلال الليالي الماضية في قضية علم الإمام(ع) بما سيجري في سفره هذا والاستشهاد في كربلاء.. وتتلخص في السؤال التالي: لماذا أخذ الإمام الحسين(ع) نساءه وعياله معه وهو يعلم مصيره؟
ـ أجيب عن ذلك بعدة إجابات، منها:
1ـ أن لهذا العمل بُعداً غيبياً، فقد استجاب الإمام الحسين(ع) لوصية النبي(ص) التي أوصاه بها في المنام قبل خروجه من المدينة المنورة، وذلك بحسب ما ورد في النص الذي رواه السيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف/الملهوف في قتلى الطفوف) قال: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سار محمد بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكة فقال: يا أخي إن أهل الكوفة مَن قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم وأمنعه. فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت. فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به ولا يقدر عليك أحد. فقال: أنظر فيما قلت. فلما كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها. فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ فقال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا، فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي إن الله قد شاء أن يراهن سبايا. وسلَّم عليه ومضى).
ـ وبالتالي فإن الإمام ـ وفق أصحاب هذا الرأي ـ استجاب للأمر السماوي الذي بلَغه إلهاماً من خلال الرؤيا، دون أن يُحدد هو (ع) في كلامه النتيجة التي تُتَوخّى من خلال ذلك، ودون أن نضطر نحن بالتبع إلى البحث رواء السبب، فهي استجابة لإرادة ربانية وكفى.
2ـ أن الإمام(ع) أراد أن يُضاعف حجم المأساة بغية إحياء ضمير الأمة، وممن أشار إلى ذلك الأستاذ (أحمد فهمي) المصري في كتابه (ريحانة الرسول)، قال: (وقد أدرك الحسين أنه مقتول إذ هو يعلم علم اليقين قُبح طويةِ يزيد، وإسفاف نحيزَتِه، وسوء سريرته، فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده إلى أن يؤذي النبي (ص) في سلالته من قتل الأطفال الأبرياء، وانتهاك حرمة النساء، وحملهن ومن بقي من الأطفال من قفرة إلى قفرة ومن بلد إلى بلد، فيثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين، فليس ثمة أشنع، ولا أفظع من التشفي والانتقام من النساء والأطفال بعد قتل الشباب والرجال فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أن يثأر من يزيد في خلافته، ويقتله في كرامته، وحقا لقد وقع ما توقعه، فكان لما فعله يزيد وعصبته من فظيع الأثر في نفوس المسلمين، وزاد في أضغانهم ما عرّضوا به سلالة النبوة من هتك خِدر النساء، وهن اللاتي ما عُرفن إلا بالصيانة والطهر والعز والمنعة مما أطلق ألسنة الشعراء بالهجاء والذم، ونفّر أكثر المسلمين من خلافة الأمويين، وأسخط عليهم قلوب المؤمنين، فقد قتله الحسين أشد من قتله إياه).
3ـ أن الإمام الحسين(ع) أراد استكمال نهضتِه من خلال الأسرى الذين سيبيِّـنون للناس حقيقة ما جرى، وحقيقة الأهداف الكامنة وراء أحداث كربلاء، قال الشيخ (باقر شريف القرشي) في كتابه (حياة الإمام الحسين): (لقد أراد (ع) بذلك أن يستكمل أداء رسالته الخالدة في تحرير الأمة وانقاذها من الاستبعاد الأموي. وقد قمن تلك السيدات بدور مشرق في إكمال نهضة أبي الشهداء (ع) فأيقظن المجتمع بعد سباته، وأسقطن هيبة الحكم الأموي، وفتحن باب الثورة عليه، ولولاهن لم يتمكن أحد أن يفوه بكلمة واحدة أمام ذلك الطغيان الفاجر). ثم استشهد رحمه الله بكلام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء وآخرين لتأكيد فكرته. واعتبر أن نص الحوار الذي دار بين الإمام الحسين وبين ابن الحنفية يُفسَّر في هذا الإطار.
ـ ويبدو أن هذه التحليلات والآراء تنسجم مع فرضِ أن الإمام يعلم مسبقاً ما سيجري وبالتفصيل، وأنه كان يعلم أن مئات المقاتلين الذين خروجه معه من الحجاز سيتخلّون عنه، وأن عشرات آلاف المقاتلين والأنصار من أهل الكوفة سيغدرون به، وبأنه كان يعلم أن القافلة لن تصل إلى الكوفة، وأنه سيُحصَر في كربلاء مع نفرٍ قليل ليقاتل بهم الأعداء.
4ـ أما بناءً على القول بأن الإمام(ع) كان يعلم علماً إجمالياً بمقتله، دون تحديدٍ لظروف ذلك وكيفيته، وأنه كان سائراً فعلاً نحو الكوفة لقيادة الثورة فيها، وما كان في نيته ـ ابتداءً ـ عند الخروج من المدينة ومكة القتال في الصحراء بنفرٍ قليل، فإننا لن نكون بحاجة إلى مثل هذه التأويلات.. لأن التفسير الطبيعي لتصرف الإمام في أخذه النساء والأطفال معه أنهم سيكونون معه في الكوفة وتحت حمايته وحماية الآلاف من مؤيديه، بينما لو تركهم في المدينة فإنهم سيكونون تحت رحمة والي الأمويين وأنصارِهم، وبالتالي سيكونون عُرضة لانتقام السلطة الحاكمة.
ـ وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ عبد الواحد المظفر، قال: (الحسين لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأموية عليها الحِجر، لا بل اعتقلتها علنا وزجتها في ظلمات السجون، ولابد له حينئذ من أحد أمرين خطيرين كل منهما يشل أعضاء نهضته المقدسة! إما الاستسلام لأعدائه وإعطاء صففته لهم طائعاً ليستنفذ العائلة المصونة، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده، وفرض على نفسه القيام به مهما كلفه الامر من الأخطار، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته، ويترك المخدرات اللواتي ضرب عليهن الوحي ستراً من العظمة والإجلال، وهذا مالا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور ولا يرادع أمية رادع من الحياء، ولا يزجرها زاجر من الإسلام. إن أمية لا يهمها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها، وإدراك غاياتها فتتوصل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية. ألم يطرق سمعك سجن الأمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وزوجة عبيد الله بن الحر الجعفي وأخيراً زوجة الكميت الأسدي؟).
ـ بالطبع فإن هذا يعني أن نرفض النص الذي ذكره السيد ابن طاووس.. ولربما يقال أن الحسين وضع في خلده هذا الاحتمال، وبالتالي توظيفه في هذا الإطار فيما لو لم يتمكن من الوصول إلى الكوفة، دون أن يتعارض هذا مع التصرف الطبيعي لقائدة ثورة في تلك الظروف. وقد جاء التدبير الإلهي بحيث تتحمل النسوة من آل البيت وسائر مَن أُسِر في كربلاء مهمة بيان حقيقة ما جرى، والأهداف التي من أجلها ثار الحسين(ع)، لتُستكمل بذلك نتائج الثورة، وذلك لعلم الله المسبق بأن الأمور ستؤول بهذه الصورة.