خطبة الجمعة 9 محرم 1434 هـ ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : عاشوراء يوم الله


ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إبراهيم:5.
ـ كل الأيام لله سبحانه، ولكن لا شك أن المراد هنا أيام خاصة، وقد تعارف العرب على استعمال مصطلح (يوم كذا) للإشارة إلى أيام مميزة في تاريخهم مثل (يوم بُعاث) و (يوم ذي قار).
ـ ونسبة أيام خاصة إلى الله مع كون جميع الأيام وكل الأشياء له، ليست إلا لظهور أمره فيها من خلال:
1. ظهور نعمه العظمى فيها بجلاء كيوم إنجاء إبراهيم من النار والانتصار في بدر وفتح مكة. وكما هو في الآية التي صدَّرت بها كلامي. وفي النبوي في قوله: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) قال: (بنعم الله وآلائه).
2. دلالات قهره وغلبته، كما في يوم القيامة والأيام التى أهلك الله فيها قوم عاد وثمود. قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الجاثية:14.
3. الانشداد الكبير للناس لذلك اليوم المحدد، كيوم عرفة، وأيام التشريق بمنى. ففي كتاب لأمير المؤمنين علي(ع) إلى واليه على مكة قثم بن العباس قال: (أَمَّا بَعْدَ، فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ).
ـ وورد عنه أيضاً أنه قال: (كان رسول الله يخطبنا فيذكّرنا بأيام الله). والهدف من التذكير:
(1) تقوية الارتباط بالله سبحانه خوفاً ورجاءً بتذكِّر آلائه وعقابه.
(2) ارتباط المجتمعات البشرية بتاريخها، والاستفادة من التجارب والعبر التي حصلت فيها، وكي لا تبقى
محصورة في دائرة أهل الاختصاص، ولئلا تتحول عبر الزمان في الذهنية العامة إلى أساطير.
(3) تخليد مَن قام بتحقيقها من منطلق إيماني رسالي، فيتحقق من خلالهم الارتباط بالدين كأشخاص هم من البشر مثلنا ولكنهم تفوقوا على كل التحديات ونجحوا في تحقيق شئ خلّده التاريخ وهو عظيم عند الله.
ـ ولا تختص أيام الله بما مضى في التاريخ، ولا بعهد النبوات، فقد تشهد كل حقبة من الزمان يوماً تتجلى فيها صورة من الصور الثلاث السابقة، وهو ما عشناه في هذا العصر في أكثر من حادثة، سواء في مواجهة الصهاينة والاستكبار، أو في سقوط أنظمة دكتاتورية مسنودة بقوى الاستكبار، أو في سقوط طاغوت في يد العدالة ليكون محبوساً في القفص بعد كل ذلك الجبروت والطغيان.
ـ ويوم عاشوراء من أيام الله بما حمله من خصال:
1ـ فهو يومٌ أريد به وجه الله ونصرة دينه وإحقاق الحق. قال الحسين(ع): (وإنِّي لم أخرج أشَراً ولا بَطَراً ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي(ص) أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرَ بِسيرَةِ جَدِّي، وأبي علي بن أبي طَالِب، فَمَنْ قَبلني بقبول الحق فالله أولى بالحقِّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصْبِرُ حتى يقضيَ اللهُ بيني وبين القوم، وهو خَيرُ الحاكِمين).
2ـ وهو بداية تصحيح مسار الأمة بعد أن تحقق الانقلاب الحضاري فيها على يد الأمويين، وفي يوم عاشوراء خطب الإمام الحسين(ع) في القوم فقال: (تباً لكم أيتها الجماعة و تَرَحاً، استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم).
3ـ وهو عدوانٌ على الرسالات السماوية من خلال العدوان على الحسين(ع) باعتباره يمثل امتداد تلك الرسالات وامتداد مسيرة الأنبياء والأوصياء: (السلام على آدم صفوة الله، السلام على نوح نبي الله..) وأيضاً بلحاظ مقامه عند الله ونبيه، وقد سمع المسلمون كلمات النبي في هذا الشأن من قبيل أنه سيد شباب أهل الجنة، وأنه مصباح الهدى وسفينة النجاة وغير ذلك.
4ـ يوم عاشوراء منطلَقُ ومولدُ أيامٍ لله جديدة، وقد تحرك أصحاب الضمائر بعد استشهاد الحسين(ع) في حركات ثورية أو احتجاجية، لم يكن لكثير منها أن يقع لولا الثورة الحسينية، ومن ذلك ثورة المدينة عام 63، وثورة التوابين عام 65، وثورة المختار عام 66، وثورة زيد عام 121، إلى سقوط الدولة الأموية.
5ـ وهو يومٌ اهتم به النبي، ومهّد المسلمين لتحديد موقفهم منه قبل أن يحدث، وقد وردت أحاديث صحيحة في مصادر المسلمين تبيّن اهتمام النبي(ص) بهذا الحدث، ومنها ما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك عن أم الفضل بنت الحارث ـ وهي لبابة زوج العباس بن عبد المطلب أول امرأة أسلمت في مكّة بعد أم المؤمنين خديجة ـ تقول أنها دخلت يومًا على رسول الله(ص) فقالت: (يا رسول الله، إني رأيت حُلُمًا منكرًا الليلة، قال: ما هو؟ قالت: إنه شديد، قال: ما هو؟، قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قُطِّعَت ووضعت في حجري، فقال رسول الله: رأيتِ خيراً، تلد فاطمة ـ إن شاء الله ـ غلامًا فيكون في حِجرك. فولدَت فاطمةُ الحسينَ فكان في حِجري، كما قال رسول الله(ص)، فدخلتُ يوماً إلى رسول الله(ص) فوضعتُه في حجره، ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، ما لك؟ قال: أتاني جبرئيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا؟ فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء) .قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأورد ناصر الدين الألباني الحديث السابق في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 821 وعلّق عليه بقوله: (له شواهد عديدة تشهد لصحته، منها ما عند أحمد [6 / 294] حدثنا وكيع قال: حدثني عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة قال وكيع: شك هو يعني ـ عبد الله بن سعيد ـ أن النبي(ص) قال لأحدهما: [لقد دخل عليَّ البيتَ ملَك لم يدخل علي قبلها، فقال لي: إن ابنك هذا: حسين مقتول وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها]. وفي الحديث رقم 822 : (لقد دخل عليَّ البيتَ ملَك لم يدخل عليَّ قبلَها، فقال لي: إن ابنك هذا: حسين مقتول وإن شئتَ أريتُك من تربة الأرض التي يُقتل بها). قال الألباني في السلسلة الصحيحة: قال (فأخرج تربة حمراء). قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين).
ـ واليوم إذ نعيش انكسارات العدوِّ الصهيوني المتتالية نتيجة صمود أبطال المقاومة في لبنان وأخيراً في غزة، فإنما نعيش معها أياماً من أيام الله، إذ نشهد استجداءَ الإدارةِ الصهيونيةِ الهدنةَ وفي زمن قياسي، وقبولَها بشروط المقاومين.. وليتساءل الصهاينة في صحافتهم: (كيف يمكن لجيش هو الأكثر تطوراً وعظمة في الشرق الأوسط ألا يتغلب على خمسة آلاف شاب فلسطيني دون خبرة عسكرية ويعيشون في ظروف ازدحام سكاني هائل في غزة؟!).
إن هذه الانتصارات ليست سوى ثمرةِ الصمودِ والتضحيةِ والعملِ الجهاديِّ الدؤوب، والصبرِ في تحمل آثار ِغطرسةِ الآلةِ العسكريةِ الصهيونيةِ المدمِّرة.. فجاء الرد المزلزل في قلب تل أبيب وسائر المدن والمواقع الحساسة التي عمل الإعلام الصهيوني والعالمي المتواطئ معه على إخفاء أثرها.
نعم، قدَّم أهل غزة التضحيات الجسام، وقدَّمت المقاومة مَن التحق بقافلة الشهداء، ولكن الله تعالى يقول للمؤمنين: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ثم يقول لهم: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ).
وأما في الباكستان، فإن يد الإجرام والتكفير والتخلف وصنيعة المخابرات الاستكبارية وأولياء الشيطان ما زالت تمتد لتَحصد أرواح المؤمنين الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يحبون الله ورسوله وأهلَ بيتِه، فيُقتّلون كلما أحيوا ذكرى يومٍ من أيام الله تعالى.. وهيهات لهم أن يفتّوا من عزيمة هؤلاء الذين ما زالت أصواتُهم ممتدةً في الزمن وهم ينادون: لو قَطّعوا أرجلَنا واليدين، نأتيك زحفاً سيدي يا حسين.