ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة السادسة/ ب


ـ بعد أن استعرضت بعض الأدلة الخاصة بحدود علم النبي(ص) والإمام(ع)، يتفرع سؤال عام وهو: هل يعلم الإمام بوقت وفاته؟ وإذا كان الجواب بنعم، وأنه سيموت مسموماً أو مقتولاً فإن البعض يتساءل عن مدى مشروعية مضيِّه في طريق الموت دون أن يعتبر نوعاً من الانتحار أو إلقاء النفس في التهلكة.
ـ تمسك المؤيدون بعلم النبي أو الإمام بوقت وفاته ـ وضمنياً بالسبب المؤدي لذلك ـ بعدة أحاديث وردت في الكافي وبصائر الدرجات وكتب أخرى، وبوّبها المجلسي في بحاره ج27 تحت عنوان: (أنهم يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم).
ـ الرواية الأولى: عن إبراهيم بن أبي محمود عن بعض أصحابنا قال: قلت للرضا(ع): (الإمام يعلم إذا مات؟ قال: نعم يعلم بالتعليم حتى يتقدم في الأمر. قلت: علم أبو الحسن عليه السلام بالرطب والريحان المسمومين اللذين بعث إليه يحيى بن خالد؟ قال: نعم، قلت: فأكله وهو يعلم؟ قال: أنساه ليَنفذَ فيه الحُكم). والرواية الأخرى جاءت بنفس المضمون مع اختلاف يسير في العبارة.
ـ الرواية الثالثة عن ابن مسافر قال: (قال لي أبو جعفر ـ الجواد ـ عليه السلام في العشية التي اعتل فيها من ليلتها العلة التي توفي فيها: يا عبدالله، ما أرسل الله نبياً من أنبيائه إلى أحد حتى يأخذ عليه ثلاثة أشياء، قلت: وأي شئ هو يا سيدي؟ قال: الإقرار لله بالعبودية والوحدانية، وأن الله يقدم ما
يشاء، ونحن قوم إذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نقلنا إليه). أقول: دلالة الخبر على العنوان غير واضحة.
ـ وعن أبي بصير قال: (قال أبو عبد الله (ع): إن الامام لو لم يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة الله على خلقه). أقول: وهنا أيضاً دلالة الخبر على العنوان غير حاسمة.
ـ وعن السائي [وهو علي بن سويد] قال: (دخلت عليه ـ الكاظم ـ وهو شديد العلة فيرفع رأسه من المخدة ثم يضرب بها رأسه ويزبد، قال: فقال لي: صاحبكم أبو فلان. قال: فقلت: جعلت فداك نخاف أن يكون هؤلاء اغتالوك عند ما رأوك من شدةٍ عليك. قال: فقال: ليس علي بأس، فبرأ الحمد لله رب العالمين). أقول: وهذه أيضاً لا تدل بالدقة على معرفتهم بموعد وفاتهم، بل تدل على أن الإمام عرف أن وفاته ليست في هذه العلة لا أكثر، أما أنه يعرف متى سيموت فلا دلالة فيها.
ـ وعن سدير قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن أبي مرض مرضاً شديداً حتى خفنا عليه، فبكى بعض أهله عند رأسه فنظر إليه فقال: إني لست بميت من وجعي هذا، إنه أتاني اثنان فأخبراني أني لست بميت من وجعي هذا. قال: فبرأ ومكث ما شاء الله أن يمكث، فبينا هو صحيح ليس به بأس قال: يا بني إن اللذين أتياني من وجعي ذلك أتياني فأخبراني أني ميت يوم كذا وكذا، قال: فمات في ذلك اليوم).
ـ وقد علّق آية الله آصف محسني في مشرعة بحار الأنوار على هذا الباب قائلاً: (فيه ست روايات غير معتبرة تدل على الجزء الأول من العنوان في الجملة، وأما الجزء الأخير فلم يذكر له رواية).
ـ علماً أن هناك روايات أخرى بثها المجلسي عند حديثه عن تواريخ الأئمة ومنها ما في الكافي عن أبي جميلة، عن عبد الله بن أبي جعفر قال: (حدثني أخي، عن جعفر، عن أبيه أنه أتى علي بن الحسين عليهما السلام ليلة قبض فيها بشراب فقال: يا أبت اشرب هذا. فقال: يا بني إن هذه الليلة التي اقبض فيها وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله). وأبو جميلة متسالم على ضعفه.
ـ وعن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا(ع): (إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يُقتل فيها والموضع الذي يُقتل فيه وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف عليه السلام أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف، كان هذا مما لم يجز تعرضه، فقال: ذلك كان ولكنه حُيِّر في تلك الليلة، لتمضي مقادير الله عز وجل) والنجاشي قال: (سهل بن زياد كان ضعيفا في الحديث غير معتمد عليه فيه وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو وبالكذب وأخرجه من قم) كما ضعَّفه الشيخ.
ـ قال المحقق الشيخ آصف محسني في كتابه (صراط الحق): (عِلمُ الأئمة(ع) بأوقات موتهم وارتحالهم عن الدنيا كلها بأسرها ضعيفة الإسناد إلا ما عن بصائر الدرجات... لكن سبق أن نسخة كتاب البصائر لم تصل بسند معتبر إلى المجلسي رحمه الله.. ولأجل ذلك أنكر الشيخ المفيد قدس سره ذلك).
ـ والذي يمكن أن نقوله من خلال ما سبق:
1ـ تعارض القول بعلم الإمام بموعد ومكان وفاته بالتفصيل والدقة مع قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان:34. وفي الخصال، عن أبي عبد الله(ع) قال: (ألا أخبركم بخمسة لم يُطلع الله عليها أحداً من خلقه؟ قال: قلت: بلى. قال: إنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
ـ إشكال: ولكن نحن نشهد أن الإنسان قد يعرف في أيامه الأخيرة أين سيموت بسبب المرض أو حكم الإعدام مثلاً، فلم نمنع ذلك عن الإمام(ع)؟
ـ الجواب: يظهر أن الآية تريد التأكيد على اختصاص الله سبحانه بعلم ذلك في تفاصيله وخصائصه وبدقة، وأن هذا العلم ناشئ من أنه الخالق المدبّر لأمورها، لا العلم الإجمالي كما يحصل بكشف جنس الجنين ـ وهذا ما بيّنه الإمام علي(ع) في حديث استعرضناه مسبقاً ـ أو المطر الاصطناعي أو معرفة مكان الموت إجمالاً.
ـ هذا ويمكن القول أن تعبير (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) لا يخص المكان بحسب الظاهر، بل تعبير عن جهل الإنسان بخصوصيات موته من حيث الزمان والمكان والتفاصيل.
ـ ولذا يمكن القول أن الإمام قد يُعلَم بمكان موته وزمنه بصورة إجمالية لا تُعارض المفهوم الدقيق للآية.
2ـ العقائد لا تؤخذ من خبر الواحد كما بينا مسبقاً، ومنها الاعتقاد بعلم الإمام بالدقة بوقت وفاته.
3ـ الأحاديث في الباب ضعيفة السند لا يصح الركون إليها.
4ـ يمكن تأويل بعض الأخبار بأنها من العلم الإجمالي لا الدقيق والتفصيلي، تماماً كما يحصل لبعض الناس من شعورهم بدنو آجالهم، وفي ذلك حوادث وقصص كثيرة. وفي البخاري قال: (عن جابر (ره) قال: لما حضر أحُد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي (ص) وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله (ص)، فإن علي دينا فاقض وإستوص بأخواتك خيرا، فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه).
5ـ ولعل وجود هذا الإشكال دفع إلى وضع الروايات على لسان الأئمة(ع) بعنوان التحيير والإنساء، مما خلق مشكلة جديدة احتاجت إلى معالجة مرة أخرى، وهي نسبة النسيان والسهو إلى الإمام وعلاقة ذلك بالعصمة، كما أنها تتعارض مع مضمون أخبار أخرى تؤكد علم الإمام وإصراره على الإقدام.
ـ ولذا لا أتفق مه المحقق الشيخ محسني حيث صحح القول بعلمهم بذلك في نهاية البحث بدليل وجود الروايات التي تبين سعة علمهم قال: (إلا أن من وقف على الروايات الواردة في كمية علومهم بأنواعها المتقدمة يطمئن بأنهم(ع) يعلمون أوقات موتهم وما يصيبهم من شهادة أو موت).
ـ قال السيد المرتضى في رسائله: (مسألة: هل يجب علم الوصي ساعة وفاته أو قتله على التعيين؟ أم ذلك مطوي عنه.
الجواب: قد بينا في مسألة أمليناها منفردة ما يجب أن يعلمه الإمام وما يجب أن لا يعمله.
وقلنا: إن الإمام لا يجب أن يعلم الغيوب وما كان وما يكون، لأن ذلك يؤدي إلى أنه مشارك للقديم تعالى في جميع معلوماته، وأن معلوماته لا يتناهى، وأنه يوجب أن يكون عالما " بنفسه، وقد ثبت أنه عالم بعلم محدث، والعلم لا يتعلق على التفصيل إلا بمعلوم واحد، ولو علم ما لا يتناهى لوجب وجود ما لا يتناهى من المعلومات، وذلك محال. وبينا أن الذي يجب أن يعلمه علوم الدين والشريعة. فأما الغائبات، أو الكائنات الماضيات والمستقبلات، فإن علم بإعلام الله تعالى شيئا " فجائز، وإلا فذلك غير واجب.
وعلى هذا الأصل ليس من الواجب علم الإمام بوقت وفاته، أو قتله على التعيين. وقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام في أخبار كثيرة كان يعلم أنه مقتول، وأن ابن ملجم لعنه الله قاتله. ولا يجوز أن يكون عالماً بالوقت الذي يقتله فيه على التحديد والتعيين، لأنه لو علم ذلك لوجب أن يدفعه عن نفسه ولا يلقى بيده إلى التهلكة، وأن هذا في علم الجملة غير واجب).
ـ والخلاصة: أن النبي أو الإمام قد يعلم إجمالاً بموعد وفاته (كما أخبر النبي بأنه قد لا يلقى المسلمين الحجاج بعد عامهم هذا) وكذلك بمكان الوفاة، كما في خصوص الإمام الحسين(ع) واستشهاده بكربلاء، إلا أن التفاصيل الدقيقة تغيب عنه لأنها من مختصات الله سبحانه، ولكي لا يقع في محذور إلقاء النفس في التهلكة بالاستسلام لعملية اغتيال بالسم مثلاً، ويغنينا عن كل المتاهات التي ندخل فيها حين القول بعلمهم الدقيق والتفصيلي بذلك. والله العالم.