ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة الخامسة


(إنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(لقمان:34).
ـ السؤال الأول: هل يصح أن نطلق القول بأن النبي(ص) أو الإمام(ع) يعلم الغيب؟
ـ الجواب: لا يصح، لأن علم الغيب من صفات الله الذاتية، وهي صفة مختصة به سبحانه.
ـ قال العلامة الطباطبائي في تفسيره: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ): (فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، وعالم بكل ما جل ودق ولا يضل ولا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: (وعنده مفاتح الغيب) الآية، فبيّن به اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وشمول علمه كل شئ.. وكيف كان فقوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى، إما لأن خزائن الغيب لا يعلمها إلا هو، وإما لأن مفاتح الغيب لا يعلمها غيره تعالى، فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن).
ـ السؤال الثاني: هل يصح القول بأن علمهم بالأشياء علم لدنّي ذاتي أو علم إحاطة وحضور؟
ـ الجواب: لا يصح، بل الصحيح أن يقال أن الله أطلعهم على شئ من علم الغيب، فهو بالتالي علمُ إخبار وحصول. وهذا ما أكده المفيد حيث قال: (القول أن الأئمة يعلمون الغيب منكر بيّن الفساد، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا لله عزوجل، وعلى قولي هذا
جماعة أهل الإمامة، إلا من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة) أوائل المقالات ص75.
ـ في نهج البلاغة في الخطبة رقم 128 (ومن كلام له (ع) فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة: يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ـ صياح ـ ولا قعقعة لُجُم ـ صوت اللجم وهي تصطك بأسنان الخيل ـ ولا حمحمة خيل. [ ويستمر(ع) في ذكر بعض الحوادث المستقبلية]
فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك (ع) وقال للرجل وكان كلبيا: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلّم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] الآية، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطبا، أو في الجنان للنبيين مرافقا. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيَّه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطم ـ تضم ـ عليه جوانحي).
ـ وقد سئل الإمام الرضا (ع): (إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب. فقال: سبحان الله! ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت! قال: ثم قال: لا والله ما هي إلا رواية عن رسول الله(ص)) رجال الكشي ص352.
ـ وهذه الرواية عن النبي (ص) هي المصدر الأساس في علومهم، ويضاف إليها حالات من الإلهام، قال الشيخ المظفر في عقائد الإمامية: (أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام الذي قبله، وإذا استجد شئ لابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه).
ـ ولنلاحظ قوله سبحانه في حق نبينا(ص): (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف/188.
ـ قيل: المنفي هو العلم الذاتي، وكأن النبي(ص) يقول: (ولو كنت أعلم الغيب علماً ذاتياً).
ـ أقول: هذا توجيه باطل، لأن الآية بعد ذلك تقول: (لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)، فالنبي ينفي استكثاره من الخير وتخلّصه مما يصيبه من مرض وإصابات جسدية وجوع وغير ذلك، ولو كان يعلم الغيب بصورة مطلقة من خلال التعليم الإلهي أو المقوّمات الموهوبة له من الله لاستكثر من الخير ولم يمسّه السوء، وحاشا النبي أن يكذب.
ـ وتتضح الصورة أكثر بما جاء بعد ذلك بقوله: (إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي أن هذه هي مسؤوليتي، وعلمي بالأمور ـ بما فيها الغيبية ـ إنما يرتبط بهذين العنوانين.
ـ السؤال الثالث: هل يصح القول أن علمهم محيط بكل شئ من خلال ما علّمهم الله تعالى؟
ـ الجواب: لا يصح ذلك، فهذا مما يختص به الله تعالى، نعم هم محيطون بما يرتبط بالهداية، أما الحوادث والمغيبات والمستقبليات وغير ذلك مما لا علاقة مباشرة له بالهداية فلا يشترط علمهم بها، فقد يعلمون بشئ منها، وقد تغيب عنهم، قال المفيد: (وليس من شرط الأنبياء (ع) أن يحيطوا بكل علم، ولا أن يقفوا على باطن كل ظاهر، وقد كان نبينا (ص) أفضل النبيين وأعلم المرسلين، ولم يكن محيطاً بعلم النجوم ولا متعرضاً لذلك، ولا يأتي منه قول الشعر ولا ينبغي له، وكان أمياً بنص التنزيل، ولم يتعاطَ معرفة الصنائع، ولما أراد المدينة استأجر دليلاً على سنن الطريق، وكان يسأل عن الأخبار ويخفى عليه منها ما لم يأتِ به إليه صادق من الناس) المسائل العكبرية ص34.
ـ وارتباط علم النبي والأئمة في الأساس بما فيه هداية للناس، أكده محمّد بن علي المازندراني المعروف بابن شهراشوب: (النبي والإمام يجب أن يعلما علوم الدين والشريعة، ولا يجب أن يعلما الغيب وما كان وما يكون، لأن ذلك يؤدي إلى أنهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته، ومعلوماته لا تتناهى.. ويجوز أن يعلما الغائبات والكاينات الماضيات والمستقبلات بإعلام الله تعالى لهما شيئاً منها) متشابه القرآن ومختلفه ج1 ص11.
ـ وعليه فإن القول بأن لديهم علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة لا يستقيم، قال المفيد: (القول بأنه يعلم كل ما يكون، فلسنا نطلقه ولا نصوّب قائلَه لدعواه فيه من غير حجة ولا بيان). المسائل العكبرية.
ـ لاحظ أيضاً ما جاء في شأن النبي موسى(ع): (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) (طه:51-52) ففي تفسير كنز الدقائق للمشهدي: (أي أنه غيب لا يعلمه إلا الله، وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به).
ـ وبمثل ذلك تحدث القرآن عن نبينا(ص) بعد سرد قصة نوح(ع): (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49).
ـ وقد أكّد الأئمة (ع) على أنهم لا يعلمون تفاصيل بعض الأمور التي لا علاقة لها بأمور الدين ومنه ما رواه أبوبصير قال: (قلت لأبي عبدالله (ع): إنهم يقولون. قال: وما يقولون؟ قلت: يقولون تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب! فرفع يده إلى السماء وقال: سبحان الله سبحان الله ! لا والله ما يعلم هذا إلا الله) المجلسي: بحار الأنوار ج25 ص294.
ـ وعن الإمام محمد الباقر (ع): (يُبسَط لنا العلم فنعلم، ويُقبَض عنا فلا نعلم). الكافي ج1 ص147.