الإنفاق العاشورائي - الشيخ علي حسن


قال الله سبحانه: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ الاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ الَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} البقرة:272
جاءت هذه الآية المدنية بين آيات تتحدث عن الإنفاق في أبعاد مختلفة:
-1 فمنها ما حثّ على الإنفاق محذّرا من تسويلات الشيطان الذي يثبّط العزائم عن العطاء، كالآية 268: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
-2 ومنها ما بيّن قيمة الإنفاق الخالص لوجه الله، كالآية 261: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
-3 ومنها ما نبّه الى ضرورة الإنفاق من المال الحلال الطيب المرغوب فيه، كالآية 267: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ الاَّ ان تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ ان اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
-4 ومنها ما حذّر من التعامل الخاطئ المصحوب للعطاء، كالآية 263:
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}.
-5 ومنها ما بيّن أهمية العطاء في السر دون المنع عن العطاء العلني، كالآية 271: {ان تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَان تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
-6 ومنها ما بيّن بعضاً من موارد الصرف المحببة عند الله، كالآية 273: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَانَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.
فما هو موقع الآية التي صدّرت بها الخطبة بين كل هذه الآيات السابقة واللاحقة؟

النبي يتألم:
جاء في كتب التفسير ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يشاهد تصرفات بعض المسلمين في مجال العطاء كان يتألم أشد الألم لما يشوبها من أمور لا تحقق الغرض المطلوب من العطاء، ولربما شاب تلك العطاءات ما يحقق نتائج عكسية على مستوى الغرض من التشريع، علاوة على أنها تُحبط ثواب المعطي.
وقد تحدثت الآيات عن بعض تلك الصور السلبية التي كان يتألم منها النبي، من قبيل العطاء رياءً والامتنان على الآخذ واهانته وتحقيره، والعطاء لا عن طيب نفس، والعطاء من المال الحرام ومن الأشياء الرديئة التي لا يرغب فيها الانسان في الظروف الطبيعية.

حس مرهف:
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرهف الحس لدرجة جاء التعبير أحياناً بقوله تعالى: {فَانَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ان اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فاطر:8، وتارة بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ان لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الكهف:6 وأمثال ذلك.
من هنا جاءت الآية لتخفف من مشاعر النبي وآلامه، لاسيما وأنه يلحظ هذه السلبيات في وسط المجتمع المؤمن، هذا المجتمع الذي يُفترض به ان يرتقي ويتأدب بأدب الإسلام في جوانب الحياة المختلفة..جاءت الآية لتذكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن وظيفته التبليغ والهداية، أما تحقق الاهتداء ومدى قبول الناس والتزامهم بما جاء به فهو خارج عن ارادته، وهو بيد الله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}.

عطاء وحكمة:
ولذا فان رسالة هذه الآيات ان المسلم ألا يكتفي بالعطاء، بل لابد وأن ينتبه الى ما يحيط بهذا العطاء من حيث النية والدوافع والمشاعر والأسلوب، بل وحتى اعمال العقل، وهو ما نلحظه في وسط الآيات التي تحدثت عن هذا الموضوع حيث جاء قوله سبحانه في الآية 268: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ الاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.
ولما كان الإنفاق في طريق احياء الشعائر الحسينية يمثّل مفردة من مفردات العطاء الذي يحبّه الله سبحانه لما يمثّله من احياء ليوم من أيام الله، فان ومن الضروري ونحن نعطي في هذا الطريق ان نؤطِّر هذا العطاء باطار الحكمة وذلك من خلال:
-1 التبصّر في موارد الإنفاق بما يحقق الغرض في الدائرة الأوسع، فبعض المجالس تكون ذات موارد قليلة وفي مناطق تحتاج الى ابقاء هذه الجذوة الحسينية فيها متّقدة..نعم، لربما يرى البعض ان مثل هذه الأماكن البعيدة أو خاملة الذكر لا تحقق له المردود الذي يتوقعه على مستوى السمعة بين الناس..وهنا المحك حيث يقيس الانسان مدى اخلاصه لله في عطائه.
-2 تجنب ما من شأنه ان يُحبط قيمة العمل من قبيل الرياء والمن والعجب والسمعة وأمثال ذلك.
-3 ترشيد الإنفاق، فبعض الموارد قد تبلغ حد الإسراف، أو قد لا تخدم أهداف احياء الذكرى، ان لم تكن تسيء اليها.وللأسف أننا في الوقت الذي يوجد فيه الاقتصاد الرياضي واقتصاد السياحة الدينية وغيرهما، نفتقد (اقتصاد الاحتفالات الدينية) الذي من شأنه ان يُرشِّد الإنفاقات ويوجهها في الاتجاه الصحيح.
-4 التجديد في موارد الصرف وتنويعها بما يوسع دائرة المتلقّين لرسالة عاشوراء، وعدم الاقتصار على الموارد التقليدية والمتكررة، فلربما كانت هذه الموارد الجديدة أكثر نفعاً وأعمق تأثيراً من سابقاتها.

فائدة عملية:
ان من يتلو آيات الله حين يمر بهذه الآية يتذكر ان قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتألم من السلبيات التي كانت تحيط بالعطاء بالمستوى الذي ينزل فيه القرآن ليخفف من آلامه النفسية تلك..فهل نكرر في عطاءاتنا ذات الصورة المؤلمة، أم نسعى لنمتلك من الحكمة ما يجنّبنا ذلك كله؟ ان علينا ان نتعامل مع احياء الذكرى الحسينية لا على أساس أنه مشروع روتيني ننجزه كيفما كان، بل من خلال مسؤولياتنا تجاهه كمنبر يندر ان يكون له مثيل، من حيث الامتداد التاريخي، ومن حيث البُعد الجماهيري، ومن حيث الرسالة، ومن حيث ما يحمله من أهمية وقداسة في النفوس.ان هذا يحتّم علينا ان نعيد النظر دائماً الى مديات نجاحنا في جعل هذا المنبر فاعلاً في خدمة أهداف الثورة الحسينية على الصعيد الفكري والروحي والأخلاقي والقيمي والعملي، لأن منبر الحسين عليه السلام من بركات يوم عاشوراء والنهضة الحسينية.
ولنعش منبر الحسين مسؤولية رسالية في اطار العناوين الكبرى التي حددها الامام في اعلانه: (اني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي أريد ان آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب).