خطبة الشيخ علي حسن غلوم حول عوائق التقريب بين المسلمين ج2


ألقيت الخطبة في 5 يونيو 2009
تحدثت في الأسبوع الماضي عن دور العامل النفسي في وقوع الاختلاف بين علماء المذاهب الإسلامية حين تناولهم القضايا الخلافية بعيداً عن الموضوعية العلمية، بل قد يدفعهم ذلك إلى اللجوء لطرح القضايا بانفعال مشحون بكثير من التهم والتخوين والتكفير والتشكيك في النيات والكلمات العنيفة، بل وحتى السباب "العلمي".. ومن الواضح أن لا مجال لانفتاح الطرف الآخر في مثل هذه الأجواء، بل وقد يلجأ إلى نفس الأسلوب أو أعنف، إلا أن تحجزه عن ذلك تقوى، أو يردّه عنه كريمُ خلُق. وهذا التشنج ينسحب أيضاً على الاختلافات التي تقع في دائرة أتباع المذهب الواحد وعلمائهم، ولذلك شواهد عديدة ومريرة عبر التاريخ البعيد والقريب.
ـ التعالي والتكبر عامل آخر يخلق أجواء اللاتفاهم بين المسلمين، فعندما يعتبر الفرد (أو الجماعة) أنه فوق مستوى النقد، ويضفي على نفسه صفة العصمة الإلهية، ويعتبر نفسه مالكاً للحقيقة الكاملة، فإنه لن يتحمل أن يدخل في أجواء الحوار الهادف، لأن على الآخرين ـ دائماً ـ أن يأخذوا عنه، فبأي يحق يجرؤ أحدهم على أن يسائله في قضية، أو يشكك في شئ من متبنياته؟! والحال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرص على أن يتواضع للآخرين في أرائهم ونقدهم وأسئلتهم، وهو المسدّد من قبل الله سبحانه (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) النجم:3-4.
ـ خطب الإمام علي عليه السلام في صفين خطبة تحدث فيها عن الولاية والطاعة، فقام إليه رجل من عسكره فقال: (أنت أميرنا ونحن رعيتك، بك أخرجنا الله عز وجل من الذل، وبإعزازك أطلق عباده من الغُل، فاختر علينا وأمضِ اختيارك، وائتمر وأمضِ ائتمارك، فإنك القائل المصدّق، والحاكم الموفق، والملك المخوَّل، لا نستحل في شئ معصيتك، ولا نقيس علماً بعلمك، يعظم عندنا في ذلك خطرك، ويجل عنه في أنفسنا فضلُك).. فماذا قال علي عليه السلام ولو كان غيره لانتفخ فخراً.. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يًعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفَوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني).
ـ والغريب أن البعض يعيش هذه الحالة مع نفسه أيضاً، فالرأي الذي يتبناه لا يتنازل عنه وإن تبيّن له ـ في خلوة تفكير ـ أنه مخطئ، أو لعل بعض المتغيرات الزمانية أو المكانية أو الظرفية توجب عليه إعادة النظر، فالذات عنده انتفخت حتى أعشت عينيه وأغلقت عليه منافذ التفكير!!
ـ كما يستثقل البعض إعادة النظر في متبنياته، لأنها بالنسبة إليه من البديهيات والضروريات التي يجب أن لا تُمس، فكيف يمكن لمثله أن يُقبِل على الحوار، ويتقبّل النقد برحابة صدر، بل ويأخذ بالحق وإن كان عند الآخر.. وبالطبع فإننا لا نقصد من إعادة النظر حتمية التغيير، بل نعني أن يكون الدليل والحجة بوصلة لتحركاته وتحديد اتجاهاته. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (فإياكم والتلون في دين الله، فإن جماعة في ما تكرهون من الحق خير من فرقة في ما تحبون من الباطل. وإن الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقة خيراً، ممن مضى ولا ممن بقي).
ـ ثم إن كثيراً من المفردات التي هي بديهية وواضحة عند البعض، هي غامضة ومحل تساؤل وشك عند الآخرين، لأنها في واقع أمرها قضايا فرعية في العقيدة والشريعة والتاريخ، لم ينص القرآن عليها، أو ليست من محكماته بل متشابهه الذي يحتمل أكثر من معنى، كما لم تثبت نصوصها عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل أثيرت في مرحلة لاحقة من تاريخ الإسلام، لتتحول ـ في قناعة البعض ـ إلى أصولٍ ترسم حدود من يدخل في الإسلام ومن يخرج منه، بينما لا تتعدى أن تكون قضايا فرعية، وقد تكون خاضعة لاجتهادات تخطئ وتصيب. (أمثلة: رؤية الله بالعين ـ العصمة في معناها الشامل ـ عينية صفات الله ـ التوسل بالصالحين).
إن التصادم والصراع هو المصير المحتوم لكثير من حالات الاختلاف الفكري ما لم ننجح في مراعاة أسس الاختلاف وقواعده وآدابه، ومادامت الذاتية والسطحية والأحكام المسبقة والتعصب وضيق الأفق والشك في النوايا هي سيدة الموقف، وما دمنا قد انتزعنا الرحمة من أجواء العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، والحال أن الله جل وعز يقول: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَىٰ الكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيَنهُم)الفتح:29.
ـ الإمام الخميني رحمة الله عليه و الذي نعيش الذكرى العشرين لرحيله كان حقاً من دعاة الوحدة معتبراً أنها مفتاح الحلول لمشاكل الأمة الإسلامية، وكان يريد لتلك الوحدة أن تكون متجذرة في وجدان الأمة، لا حالة طارئة تزول بزوال الظروف، وكان مما قاله في هذا الإطار: (يجب أن يحترز الإخوة السنة والشيعة عن أي اختلاف، إن اختلافنا اليوم هو فقط لصالح أولئك الذين لا يعتقدون لا بالمذهب الشيعي ولا بالمذهب الحنفي ولا بسائر الفرق الأخرى. إنهم يريدون أن لا يكون هذا ولا ذاك، ويعتقدون أن السبيل هو في زرع الفرقة بيننا وبينكم، يجب أن ننتبه جميعاً إلى هذا المعنى، وهو أننا جميعاً مسلمون، وكلنا أهل القرآن ومن أهل النوحيد، وينبغي أن نبذل جهدنا من أجل القرآن والتوحيد وخدمتهما). وكان يعتبر أن مركز انطلاقة هذه الوحدة هي مكة المكرمة وموسم الحج، فقال: (إن الحل الذي هو أساس الحلول والذي يقضي على جذور هذه المصائب ويأتي على الفساد وبكامله هو وحدة المسلمين.. ويجب أن تتم هذه الوحدة التي يؤكد عليها الإسلام الشريف والقرآن الكريم من خلال الدعوة والتبليغ الشامل، وإن مركز هذه الدعوة هي مكة المكرمة في فترة اجتماعغ المسلمين لأداء فريضة الحج).