ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة الثالثة


ـ (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) يونس:36.
ـ المقدمة الثانية في بحثنا هذا ترتبط بمدى حجية خبر الواحد في تكوين المعتقد.
ـ لا خلاف حول إمكانية الأخذ بالسنة المنقولة إن كانت يقينية، لأنها حجة، بينما وقع جدل بين الفقهاء حول صحة الاعتماد عليها إن كانت ظنية كخبر الواحد الصحيح، وذلك في المجال الفقهي والأخلاقي.
ـ وكما لا يخفى فإن المسألة باتت شبه محسومة في النظريات الفقهية المعاصرة لصالح صحة ذلك.
ـ ولكن في المقابل هناك بحث حول صحة ذلك في غير هذين المجالين، وقد اشتهر القول بالمنع بين القدماء، ومن أدلتهم التمسك بالآيات الناهية عن الأخذ بالظن، كالآية السابقة. فلو صححنا الأخذ بخبر الواحد في الفقه وفق أدلة معينة، فإنه لا مجال للأخذ بهذا الدليل الظني في العقديات، وإلا فما معنى الآية؟
ـ بل قد أكد عدد من العلماء على أن هذه الآيات إنما تخص العقديات دون غيرها، ومنهم الميرزا النائيني والسيد البروجردي.. ولا مجال للحجج الظنية في أصول الدين، وقد قال الخراساني صاحب الكفاية: (الظاهر أو المتيقن من آيات النهي عن الظن هو الأصول الاعتقادية).
ـ قال السيد المرتضى (ت436هـ): (ألا ترى أن هؤلاء بأعيانهم قد يحتجون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد، ومعلوم عند كل عاقل أنها ليست بحجة في ذلك).
ـ وكان المشهور بين الإمامية المتقدمين عدم الأخذ بالسنة الظنية لا في أصول العقائد ولا في تفاصيلها.
ـ ولكن بعد القرن الثامن الهجري حصل انقسام أوضح في الموقف بين من يؤكد على الاقتصار على اليقينيات، كالشهيدين والسيد أبوالحسن الأصفهاني والسيد الحكيم والإمام الخميني، وبين من سمح بالأخذ بالظنيات، كنصير الدين الطوسي والمجلسي والفيض الكاشاني ضمن ضوابط معينة.
ـ وفي مشهد اليوم توجه علمي (= مدرسة) ذات منهج خاص في تأسيس العقيدة يطلق عليها البعض اسم (المدرسة التفكيكية)، ومن أبرز وجوهها الحاليين الأستاذ محمد رضا الحكيمي والسيد جعفر سيدان.
ـ أصحاب هذه المدرسة يدعون إلى التفكيك بين مصادر المعرفة: العقل، النص، القلب، ويرفضون التأويلات الفلسفية والعرفانية للوصول إلى المعرفة الدينية ويدعون إلى التمسك بالنص في هذا المجال.
ـ ويقولون: لابد في أصول الدين من الرجوع إلى الأحاديث المتواترة أو القطعية، فإن فقدناها فنرجع إلى ما يبعث الاطمئنان، وإلا رجعنا إلى ما يفيد الظن ما دام أنه رواية معتبرة صادرة عن معصوم.
ـ أما العلامة الطباطبائي فهو من المتأخرين الأكثر تشدداً في هذا المجال، فهو يرفض بشدة أي شئ اسمه خبر الواحد الظني في العقائد والتفسير وغيرها مما ليس من الفقه وما يتصل به، سواء أكان تام السند أم ضعيفاً. قال في تفسيره: (لا نعوّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته). وفي سياق رده على خبر قلع مدينة قوم لوط من سبع أرضين: (لا يكفي في ثبوت الأمر الخارق للعادة خبر الواحد). وقال: (إن روايات التفسير إذا كانت آحاداً فلا حجية لها إلا ما وافق مضامين الآيات، والحجية محصورة في الشرعيات، فروايات القصص والتفسير الآحادية غير حجة شرعاً.. إلا ما تقوم القرائن القطعية.. على صحة متنه).
ـ والمهم عنده أن يكون الخبر موافقاً للقرآن، لا صحة سنده. وهذه نقطة مهمة في مسألة مرجعية القرآن في تكوين المعارف: (أما ترك البحث عن موافقة الكتاب والتوغل في البحث عن حال السند ـ إلا ما كان للتوسل إلى تحصيل القرائن ـ ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها، ثم تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، واتخاذه تبعاً لذلك، كما هو دأب كثير منهم، فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل).
ـ والذي أميل إليه ـ كما توصل إلى ذلك بعض الباحثين ـ هو إمكانية الأخذ بتلك الأخبار الظنية بشرط عرضها على القرآن، وذلك وفق الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: تحديد المفهوم العقدي كما هو وارد في الرواية، أو كما استنتجه الباحث.
الخطوة الثانية: جمع الآيات الواردة في الموضوع من جميع السور ثم تفسير الآيات جنباً إلى جنب ومن ثم تكوين مفهوم كلي يكون الضابطة والمعيار في تقييم الخبر.
الخطوة الثالثة: عرض الأخبار (أو المفهوم المستخص منها) على الضابطة القرآنية، وتقييمها.
ـ وأما ما لا أصل قرآني له ولا قرائن تنقله من مرتبة الظنيات إلى اليقينيات أو ما يطئن إليه، فنوكل علمه إلى الله سبحانه، ولا حجة للخبر علينا في ذلك، ونكون فيه من المعذورين أمام الله.
ـ ومن المؤسف أن نشهد تساهلاً كثيراً في اعتبار قضايا جزءً من العقيدة دون تدقيق في مصدر هذه المفردة والتي قد تكون أحياناً من الأخبار الضعيفة أو من التأويلات التي لا تعتمد على حجة، وبالتالي ندخل في متاهات عقدية كثيرة لا تصمد أمام النقد، وتدفع للابتعاد أكثر عن العقيدة الإسلامية الصافية.
ـ إن اعتماد المنهج السابق يمكّننا من الاطمئنان إلى النتائج التي سنصل إليها في تكوين المفردات العقدية، ولا نقع في المحذور الوارد في قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء:36) لأننا حينها سنصل إلى معرفة عقائد الإسلام بصورة قرآنية ناصعة وصافية، ومتمسكين بوصية أمير المؤمنين(ع): (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن).