ليالي عاشوراء 1434 هـ مع الشيخ علي حسن ـ الليلة الأولى


ـ من الأسئلة التي تثار في كل عام في أجواء إحياء ذكرى عاشوراء: هل كان الإمام الحسين(ع) يعلم بأنه سيُقتل في كربلاء؟
ـ يُطرح هذا التساؤل ـ تارةً ـ استفهاماً عن حقيقة علم الأئمة(ع) بالغيب، ويُطرح ـ تارة أخرى ـ في إطار البحث عن المسوّغ الشرعي للإمام بأن يكمل مسيرته نحو ذلك المصير مع نهي القرآن عن إلقاء النفس في التهلكة. والإجابة عن هذا التساؤل تحتاج إلى طرح عدة مسائل تكامل الصورة المعرفية له:
1ـ موقع القرآن الكريم في تكوين المعرفة الدينية
2ـ هل يصح تأسيس المفردة العقدية من خلال (خبر الواحد)؟
3ـ كيف نفرق بين ما هو من العقيدة وبين ما هو من التاريخ؟
4ـ حدود علم النبي والإمام
5ـ علم الإمام بوقت وفاته ولماذا لا يتحرز عن سبب الوفاة
6ـ حدود مشروعية الثورة ضد الظلم والباطل في ضوء هذا العلم
ـ وأؤكد هنا أننا سنسير في حقل من الألغام، ولربما نتجاوز بعض الخطوط الحمراء، ولكن من المهم أن لا نصدر أحكاماً متسرعة ولا نسبق الأحداث.
ـ وأول ما سنبحث فيه ما يقع تحت عنوان تأسيس مرجعية القرآن باعتبارها الأساس في تكوين المعرفة الدينية (العقيدة ـ فهم القرآن ـ الأخلاق ـ الأحكام الشرعية ـ التاريخ ـ المفاهيم الإسلامية .. إلخ).
ـ وعندما أتحدث عن هذه المرجعية فإنما أقصد تقديم حاكمية النص القرآني والظاهر القرآني على أي دليل آخر، لا بمعنى إبعاد السنة عن كونها المصدر الآخر للمعرفة الإسلامية، بدعوة شبيهة بنداء (حسبنا كتاب الله)، بل بمعنى ترتيب الأولوية في الاعتماد عليهما نظرياً وعملياً.
ـ نظرياً، لا خلاف بين المسلمين على اعتبار القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي في تكوين المعارف الإسلامية في الحقول المختلفة، وأنه هو الميزان والمعيار في تصويب الآراء والأفكار.
ـ عملياً، الواقع يشهد أن هذا الدور المرجعي ووظيفته المتعددة الأطراف أمر غير متحقق إلا في موارد محدودة، وهذا يعني أن الهجران الذي حذرت منه بعض النصوص القرآنية والنبوية لا يقتصر على جانب التلاوة فقط، ولا على الجانب التطبيقي في حياة المسلمين، بل يشمل حتى الجانب المعرفي أيضاً.
ـ وقد أشار أكثر من مفكر وباحث إسلامي إلى خطورة استمرار هذا الوضع، مؤكدين ضرورة العمل على البحث بدقة في أمرين مهمين، وتفعيلهما بعد ذلك:
الأمر الأول: تقديم حجية القرآن على حجية خبر الواحد، وعدم الارتضاء بجعلهما بمستوى واحد من
الحجية، فضلاً عن تقديم الخبر على الكتاب.
الأمر الثاني: أن القرآن الكريم هو فعلاً الميزان والمعيار في تقويم جميع المعارف.
ـ وقد دق العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان ناقوس الخطر منذ عقود، وأشار بكل دقة إلى موضع الخلل حيث قال: (وقد أفرط في الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الأخبار! وبلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: "أن الخبر ينسخ الكتاب". ولعل المتراءى من أمر الأمة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: "أن أهل السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي (ص): "إنهما لن يفترقا" وأن الشيعة أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقوله (ص): "إنهما لن يفترقا" فقد تركت الأمة القرآن والعترة "الكتاب والسنة" معاً. وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية وهى العلوم الدينية والأدبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نُظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمس مصحفاً قط. فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله).
ـ أسباب تقهقر الدور المرجعي للقرآن وتأخير حجيته مقارنةً بالسنة:
1ـ عامل تاريخي: يتمثل في الاستغراق في تقوية العلاقة بأهل البيت(ع) ومواجهة الهجمات ضدهم على حساب الاهتمام بالقرآن، مما خلق حالة عاطفية تندفع وراء الخبر حين يتصدره عنوان (قال أمير المؤمنين) أو (قال الصادق) دون التدقيق غالباً في صحة المنقول، سنداً أو متناً بعرضه على القرآن، وهو المنهج الذي أكده أهل البيت أنفسهم كما في الخبر عن النبي(ص): (إذا أتاكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله وحجة عقولكم فإن وافقهما فاقبلوه، والا فاضربوا به عرض الجدار) وعن الصادق(ع): (كل شئ مردود إلى كتاب الله و السنة، فكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) وعنه(ع): (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف). مع ملاحظة أن حديث الثقلين يرشد إلى هذا الأمر: (إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله عزوجل حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل
بيتي ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) .فكون القرآن هو الثقل الأكبر دليل على ذلك.
2ـ عامل معرفي: وهو مقولة عدم الأخذ بظواهر القرآن الكريم إلا بالرجوع إلى الأحاديث المروية عن أهل بيت النبوة(ع)، باعتبار أنهم هم الراسخون في العلم الذين دفعنا القرآن ذاته إلى الرجوع إليهم في فهم متشابهاته.. وكانت النتيجة أن أصحاب هذا الرأي من العلماء أنكروا حجية ظواهر القرآن من جهة، وجعلوا الأحاديث حاكمة على القرآن من جهة ثانية.
ـ قال الشيخ يوسف البحراني في (الحدائق الناضرة): (منهم من منع فهم شئ منه مطلقاً حتى مثل قوله: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} التوحيد:1، إلا بتفسيرٍ من أصحاب العصمة عليهم السلام). وعقد الشيخ الحر العاملي (ره) في وسائل الشيعة باباً تحت عنوان: (عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الأئمة).
ـ وقد أدى هذا إلى جعل القرآن يعيش في متاهات معرفية من خلال الأحاديث التي قد لا تكون موثوقة في سندها ولا في متنها.
3ـ عامل بنيوي: وهو تأويل النصوص التي تؤكد على مرجعية القرآن وتقديم حجية ظواهره كحديث: (ما خالف كتاب الله فهو زخرف) إذا اعتبر أن المعنى: (ما خالف باطن كتاب الله، وليس ما خالف ظاهر كتاب الله)، الأمر الذي أفقد ظاهر القرآن قيمته عند الناس، وفتح المجال للتأويل غير العلمي بذريعة المعنى الباطني.
4ـ عامل نفسي: النظرة (الدونية) لتفسير القرآن مقارنة بالبحث الفقهي، وهو ما أشار إليه سماحة السيد علي الخامنئي متشكياً أمام طلبة العلوم الدينية في قم قائلاً: (... وإذا أراد أحد كسب مقام علمي في الحوزة كان عليه أن لا يُفسّر القرآن حتى لا يُتّهم بالجهل، إذ كان يُنظر إلى الملا المحترم والعالم المفسِّر الذي يستفيد الناس من تفسيره على أنه جاهل ولا وزن له علمياً، لذا يضطر إلى ترك درسه، ألا تعتبرون أن ذلك فاجعة؟).
ـ بتصوري أن وضع البناء الإسلامي المعرفي في مساره الصحيح من خلال اعتماد مرجعية القرآن بصورته الحقيقية سيقدم حلولاً منطقية للكثير من التساؤلات التي تدور في الأذهان وتُقدَّم لها ـ عادة ـ إجابات قد تدخلنا في متاهات جديدة تحتاج هي بدورها إلى إجابات أخرى.. كما أنها ستقدم التشيع في إطاره القرآني الذي يجعله أقل عرضة للنقد وأكثر مقبولية للباحث عن الحقيقة.
ـ لقد أكد الإمام الحسين(ع) على هذه المرجعية لكتاب الله في بداية يوم عاشوراء وهو يواجه القوم ملقياً عليهم الحجة، فبحسب نص أبي مخنف برواية الطبري عنه، قال: (ثم إن الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه) وبحسب كتاب (تذكرة خواص الأمة في خصائص الأئمة) لسبط ابن الجوزي: (ثم إن الحسين عليه السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: يا قوم إن بيني وبينكم كتابَ الله وسنةَ جدي رسول الله) ثم لم يقاتلهم حتى ألقى عليهم الحجج انطلاقاً من القرآن الكريم ومفاهيمه وقيمه.