الإمام علي والمسؤولية - الشيخ علي حسن

ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير لم يكن أمراً استثنائياً بالنسبة لأمير المؤمنين علي عليه السلام، بل جاء في السياق الطبيعي لتاريخ الإمام، وجاء كتتويج لكل تلك النصوص والمواقف النبوية التي بيّنت للمسلمين مَن هو علي، وما هي المسؤولية الملقاة على عاتقه بعد النبي، وما هي مسؤولية المسلمين تجاهه.
علي يعايش النبوة في مهدها:
شخصية عايشت نبوةَ النبي وحقيقتَها في العمق، إذ تحركت معه في كل المواقع حركةً واعية متبصِّرة منذ البداية وهو القائل: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علَماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، ولكنك وزير وإنك لعلى خير).
ومن ذلك كان حقيقاً بعلي عليه السلام أن يعتبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنفسه، كما جاء في آية المباهلة، وقد قال جابر‏ الأنصاري:‏ (أنفسَنا وأنفسَكم : رسولُ الله وعلي).
علي ينصر الإسلام:
شخصية كانت حاضرة في أشد المواقف بكل قوة إعلاءً لدين الله، ونصرة لرسول الله، وبروعة وصف سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام إذ قالت: (كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نَجَم قرن للشيطان، أو فَغرتْ فاغرة من المشركين، قَذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه، ويُخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً).
النبي يكرّم علياً:
شخصية نالت من التعريف والتكريم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم ينله أحد من المسلمين، كماً وكيفاً، وهو القائل فيه يوم الخندق: (برز الإيمان كلُّه إلى الكفر كلِّه)، ويوم خيبر: (لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)، ويوم تبوك: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي؟) ومنزلة هارون من موسى هي ما عبّر عنه القرآن الكريم: (واجْعَل لي وزيراً من أهْلي، هارون أخي، اشْدُد به أزري، وأشرِكْه في أمري) (طه:29ـ32). والقائل في بيان علمه: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) والقائل في بيان لزوم الاهتداء والاقتداء به: (علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دار)، والجامع له الصفات العليا بقوله: (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في عزمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب).
جلجل الحق:
ولهذا ولغيره كثيرٌ كثير، فإن الإنسان المنصف لا يملك إذا تطلّع إلى علي(ع) في جميع آفاقه الروحية وإخلاصه وجهاده وعلمه إلا أن يخشع أمامه، ولذا قال الشاعر المسيحي بولس سلامة:
جلجل الحقُّ في المسيحي حتى عُدَّ مِن فرطِ حبّه علويـّا
يا سماءُ اشهدي ويا أرضُ قَرّي واخشعي إنني ذكرتُ عليا
وأيضاً لهذا وغيره كثيرٌ كثير نقول أن ما جاء في نص الغدير إنما جاء في السياق الطبيعي لتاريخ علي عليه السلام، وأن ما جاءت من شهادات في حق علي تجلّت بصورة صادقة في المقامين، الأول بعد وفاة النبي، والثاني حين أصرّ الناس عليه ليحكم بعد قتل الخليفة عثمان.
علي بين مسؤوليتين:
ففي المقام الأول قارن الإمام بين أمرين، وقد قال مبيناً ذلك: (وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ) فماذا اختار؟ (فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفي الْعَيْنِ قَذَىً، وَفي الْحَلْقِ شَجاً). واتخذ الإمام قرار المقاطعة احتجاجاً.
واستمر في المعارضة السلبية حتى تبدلت الظروف مع بدء حروب الردة: (فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولايتكم الّتى إنّما هى متاع أيّام قلائل).
وفي المقام الثاني تجددت الخيارات أمام علي عليه السلام، مع تبدّل المعطيات على أرض الواقع إذ أكدت له أن الأمور باتت تحمل معها أوضاعاً متفجرة، وأن خارطة الولاءات قد تبدلت بصورة كبيرة، في الوقت الذي لم تكن لعلي عليه السلام رغبة ذاتية في الملك وهو الذي يعتبر نعلته الممزقة أحب إليه من الإمرة.


ومرة أخرى يتحمل الإمام مسؤوليته، ولكن من خلال الحكم، وتحت ضغط جماهيري كبير، وبعد أن وجد أن الحجة قد لزمته وهو القائل: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلألْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هـذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز).
مبادئ ومواقف:
إن علياً عليه السلام يعلمنا أن المبادئ هي التي تحدد المواقف، لا الانتصار للأنا ولا العداوات الشخصية ولا العصبيات، وأن تبدّل الظروف يستدعي البحث عن الموقف المتوافق مع المصلحة العليا، لا بمعنى التخلي عن المبادئ، بل بمعنى توظيفها في الاتجاه الذي يرضي الله ويخدم المصلحة العامة.
إن ما تمر به الكويت اليوم، وما هي مقبلة عليه من تصعيد ميداني وإعلامي تستدعي من جميع الأطراف أن تتخلى عن ذاتياتها، وأن تجعل رضا الله والمصلحة العامة نصب أعينها، ومن خلال ذلك تحدد مواقفها، لأننا نريد للكويت أن تبقى بلد أمن وازدهار وتنمية، لا بلد فتنة ودمار وتخلف، تماماً كما نريد لها أن تحافظ على المكتسبات والقيم الإنسانية التي عملت على تنميتها على صعيد حقوق الإنسان والحريات العامة في الإطار الذي كفله الدستور، وأن لا تتحول الفتنة التي تمر بها البلاد إلى وسيلة يُعمل من خلالها على إلغاء تلك المكتسبات، وأن لا تتحول الفتنة التي تمر بها البلاد إلى وسيلة لتصفية الحسابات التاريخية والطائفية والحزبية والشخصية، ولنسترشد بكلمة علي عليه السلام: (لا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق).
ولنتذكر ديباجة دستورنا الذي نص على أن وضعه قام: (سعياً نحو مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية، ويفئ على المواطنين مزيداً كذلك من الحرية السياسية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، ويرسي دعائم ما جُبلت عليه النفس العربية من اعتزاز بكرامة الفرد، وحرص على صالح المجموع، وشورى في الحكم، مع الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره).