شجاعة أمير المؤمنين علي 2 من 2 ـ الشيخ علي حسن

نستطيع بكل جرأة أن نقول أن الإمام علياً عليه السلام أعطى أبعاداً جديدة للشجاعة، إذ أنه جمع بين الشجاعة التي لا نظير لها وبين خصال أخرى يصعب أن تجتمع في شخص واحد، وقد أشار أكثر من واحد من العلماء إلى هذه الحقيقة.
قال الشريف الرضي جامع كتاب نهج البلاغة: (ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممن عظم قدره، ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتاً سيفه، فيقطع الرقاب، ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال، زاهد الزهاد، وبدل الأبدال. وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد، وألف بين الأشتات، وكثيراً ما أذاكر الإخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع العبرة بها، والفكرة فيها).
وعلق ابن أبي الحديد المعتزلي على هذا الكلام بقوله: (الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، وفتك وتمرد وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقة ولين، وضعف قلب، وخور طبع، وهاتان حالتان متضادتان، وقد اجتمعتا له عليه السلام. ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سَبُعية، وطباع حوشية، وغرائز وحشية، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق، وعبوس في الوجوه، ونفار من الناس واستيحاش، وأمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا، وأكثرهم وعظاً وتذكيراً بأيام الله ومَثُلاته، وأشدهم اجتهاداً في العبادة، وآدابا لنفسه في المعاملة. وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأكثرهم بِشراً، وأوفاهم هشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خلق نافر، أو تجهم مباعد، أو غلظة وفظاظة تنفر معهما نفس، أو يتكدر معهما قلب).
شجاعة وحلم:
ومن جهة أخرى فقد تحدث ابن أبي الحديد حول جانب آخر من شخصية الإمام علي عليه السلام حيث جمع بين الشجاعة والحلم، وهو ما لم يعتد في الرجال، قال: (الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح، ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل، ولقد أحسن مهيار في قوله:
حتى إذا دارت رحى بغيهم * عليهم وسبق السيف العذل
عاذوا بعفو ماجد معود * للعفو حمال لهم على العلل
فنجت البقيا عليهم من نجا * وأكل الحديد منهم من أكل
أطت بهم أرحامهم فلم يطع * ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل
شجاعة وسخاء:
وراح ابن أبي الحديد إلى أبعد من ذلك إذ قال: (ما رأينا شجاعاً جواداً قط.. وكان عبد الملك شجاعاً وكان شحيحاً، يضرب به المثل في الشح، وسمي رشح الحجر، لبخله. وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء، كيف هي وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام!).
فلسفة الشجاعة:
أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد راح يفلسف الشجاعة كما يفهمها، ومن خلال الأبعاد الجديدة التي تجلت في شخصيته، إذ أن الشجاعة لا تقتصر على المواقف في ساحات الوغى، فالحلم شجاعة في نظر علي، لأنه يختزن الصبر ومنع النفس والصراع مع الهوى، وهو ما يتطلب الشجاعة والعزيمة، فقال عليه السلام: (أشجع الناس من غلب الجهل بالحلم).
وبما أن الشجاعة إنفاق العمر وبذله فلذا كانت سخاء، كما أن السخاء من باب الشجاعة، فالسخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة والروح فكان شجاعة. قال عليه السلام: (أشجع الناس أسخاهم).