الخطبة القاصعة ـ القسم الخامس


وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار، جَمَّ الاَْشْجَارِ، دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف مُحْدِقَة، وَعِرَاص مُغْدِقَة، وَزُرُوع نَاضِرَة، وَطُرُق عَامِرَة، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ.
وَلَوْ كَانَ الاِْسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالاَْحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَة حَمْرَاءَ، وَنُور وَضِيَاء، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُضَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ.
وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْـمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاًلِعَفْوِهِ.
فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ في طِمْرِهِ.