خطبة الجمعة 25 ذوالحجة 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الإنفاق العاشورائي


ـ (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) البقرة:272
ـ جاءت هذه الآية المدنية في جملة آيات تتحدث عن الإنفاق في أبعاد مختلفة:
1ـ فمنها ما حثّ على الإنفاق محذّرا من تسويلات الشيطان الذي يثبّط العزائم عن العطاء، كالآية 268: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
2ـ ومنها ما بيّن قيمة الإنفاق الخالص لوجه الله، كالآية 261: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
3ـ ومنها ما نبّه إلى ضرورة الإنفاق من المال الحلال الطيب المرغوب فيه، كالآية 267: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
4ـ ومنها ما حذّر من التعامل الخاطئ المصحوب للعطاء، كالآية 263: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ).
5ـ ومنها ما بيّن أهمية العطاء في السر دون المنع عن العطاء العلني، كالآية 271: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
6ـ ومنها ما بيّن بعضاً من موارد الصرف المحببة عند الله، كالآية 273: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
ـ فما هو موقع الآية التي صدّرت بها الخطبة بين كل هذه الآيات السابقة واللاحقة؟
ـ يقول المفسرون أن رسول الله(ص) عندما كان يشاهد تصرفات بعض المسلمين في مجال العطاء كان يتألم أشد الألم لما يشوبها من أمور لا تحقق الغرض المطلوب من العطاء، ولربما شاب تلك العطاءات ما يحقق نتائج عكسية على مستوى الغرض من التشريع، علاوة على أنها تُحبط ثواب المعطي.
ـ وقد تحدثت الآيات عن بعض تلك الصور السلبية التي كان يتألم منها النبي، من قبيل العطاء رياءً والامتنان على الآخذ وإهانته وتحقيره، والعطاء لا عن طيب نفس، والعطاء من المال الحرام ومن الأشياء الرديئة التي لا يرغب فيها الإنسان في الظروف الطبيعية.
ـ ولما كان رسول الله(ص) مرهف الحس لدرجة جاء التعبير أحياناً بقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) فاطر:8، وتارة بقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الكهف:6 وأمثال ذلك.
ـ من هنا جاءت الآية لتخفف من مشاعر النبي(ص) وآلامه لاسيما وأنه يلحظ هذه السلبيات في وسط المجتمع المؤمن، هذا المجتمع الذي يُفترض به أن يرتقي ويتأدب بأدب الإسلام في جوانب الحياة المختلفة، جاءت الآية لتذكّر النبي(ص) بأن وظيفته التبليغ والهداية، أما تحقق الاهتداء ومدى قبول الناس والتزامهم بما جاء به فهو خارج عن إرادته، وهو بيد الله (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء).
ـ وخلاصة الكلام أن على المؤمن أن لا يكتفي بالعطاء، بل لابد وأن ينتبه إلى ما يحيط بهذا العطاء من حيث النية والدوافع والمشاعر والأسلوب، بل وحتى إعمال العقل، وهو ما نلحظه في وسط الآيات التي تحدثت عن هذا الموضوع حيث جاء قوله سبحانه في الآية 268: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ).
ـ الآن.. ونحن مقبلون على شهر محرم الذي نحييه بالمجالس والشعائر الحسينية، فإن الإنفاق في هذا الطريق يمثّل مفردة من مفردات العطاء الذي يحبّه الله سبحانه لما يمثّله من إحياء ليوم من أيام الله.
ـ ومن الضروري ونحن نعطي في هذا الطريق من أن نؤطِّر هذا العطاء بإطار الحكمة وذلك من خلال:
1ـ التبصّر في موارد الإنفاق بما يحقق الغرض في الدائرة الأوسع، فبعض المجالس تكون ذات موارد قليلة وفي مناطق تحتاج إلى إبقاء هذه الجذوة الحسينية فيها متّقدة بلحاظ التحديات التي تعيشها في هذا الصعيد.. نعم، لربما يرى البعض أن مثل هذه الأماكن البعيدة أو خاملة الذكر لا تحقق له المردود الذي يتوقعه على مستوى السمعة بين الناس.. وهنا المحك حيث يقيس الإنسان مدى إخلاصه لله في عطائه.
2ـ تجنب ما من شأنه أن يُحبط قيمة العمل من قبيل الرياء والمن والعجب والسمعة وأمثال ذلك.
3ـ ترشيد الإنفاق، فبعض الموارد قد تبلغ حد الإسراف، أو قد لا تخدم أهداف إحياء الذكرى، إن لم تكن تسئ إليها. وللأسف أننا في الوقت الذي يوجد فيه الاقتصاد الرياضي واقتصاد السياحة الدينية وغيرهما، نفتقد (اقتصاد الاحتفالات الدينية) الذي من شأنه أن يُرشِّد الإنفاقات ويوجهها في الاتجاه الصحيح.
4ـ التجديد في موارد الصرف وتنويعها بما يوسع دائرة المتلقّين لرسالة عاشوراء، وعدم الاقتصار على الموارد التقليدية والمتكررة، فلربما كانت هذه الموارد الجديدة أكثر نفعاً وأعمق تأثيراً من سابقاتها.
ـ ولنتذكر دائماً أن قلب رسول الله(ص) كان يتألم من السلبيات التي كانت تحيط بالعطاء بالمستوى الذي ينزل فيه القرآن ليخفف من آلامه النفسية تلك.. فهل نكرر في عطاءاتنا ذات الصورة المؤلمة، أم
نسعى لنمتلك من الحكمة ما يجنّبنا ذلك كله؟ إن علينا أن نتعامل مع إحياء الذكرى الحسينية لا على أساس أنه مشروع روتيني ننجزه كيفما كان، بل من خلال مسؤولياتنا تجاهه كمنبر يندر أن يكون له مثيل، من حيث الامتداد التاريخي، ومن حيث البُعد الجماهيري، ومن حيث الرسالة، ومن حيث ما يحمله من أهمية وقداسة في النفوس. إن هذا يحتّم علينا أن نعيد النظر دائماً إلى مديات نجاحنا في جعل هذا المنبر فاعلاً في خدمة أهداف الثورة الحسينية على الصعيد الفكري والروحي والأخلاقي والقيمي والعملي، لأن منبر الحسين(ع) من بركات يوم عاشوراء والنهضة الحسينية.
ـ فلنعش منبر الحسين مسؤولية رسالية في إطار العناوين الكبرى التي حددها الإمام في إعلانه: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب.