شجاعة أمير المؤمنين علي : 1 من 2 ـ الشيخ علي حسن


يقول علماء الأخلاق أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة، إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس.. مثلاً: إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن والتحلي بملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الأحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة. ثم يقولون أن الدافع إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد أمرين:
الأول: الغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس، مثلاً: الشره يوجب الخصاصة والفقر، والطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، ولذا فإن من أراد الجاه عند الناس والعزة والاحترام، فإنه يتخلص من الشره والطمع، ويتحلى بالعفة والقناعة.
الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى، كقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(التوبة:111)، وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10)، وقوله تعالى: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(إبراهيم:22)، وأمثالها كثير.
الشجاعة في شخصية علي:
ومن يدرس سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وشخصيته، فإنه لا يجد أنه قد جبن في موقع قط، ولا عُرف عنه التردد في أمر يحتاج إلى إقدام أو قتال، لا في صغره ولا بعد ذلك، كما أنك لا تجده يُقدم على أمر طمعاً في الغايات الدنيوية، كما أن الغايات الأخروية ليست هي العامل الأساس الذي يدفعه للتصدي للباطل والإقدام لنصرة الدين، وهذا ما يؤكد أن الشجاعة في علي عليه السلام هي خصلة ذاتية وسجية ولدت معه.
ولذا نقرأ لابن أبي الحديد المعتزلي الوصف الرائع التالي وهو يتحدث عن شجاعة علي عليه السلام. قال: [وأما الشجاعة: فإنه أنسى الناس فيها ذِكْرَ مَن كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث (كانت ضرباته وترا)، ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا ما دمت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له * وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادى في مشارق الأرض ومغاربها].
في معركة الجمل :
وقد جاء في كتب التاريخ أن علياً في معركة الجمل زحف نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه: حسن وحسين ومحمد، ودفع الراية إلى محمد، وقال: أقدِم بها حتى تركزها في عين الجمل، ولا تقفن دونه. فتقدم محمد، فرشقته السهام، فقال لأصحابه: رويدا حتى تنفد سهامهم، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان. فأنفذ إليه علي عليه السلام يستحثه، ويأمره بالمناجزة، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن، وقال له: أقدِم لا أم لك! فكان محمد إذا ذكر ذلك بعد يبكى، ويقول: لكأني أجد ريح نفسه في قفاي، والله لا أنسى ذلك أبداً. ثم أدركت عليا عليه السلام رقة على ولده، فتناول الراية منه بيده اليسرى، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه، ثم حمل فغاص في عسكر الجمل، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته. فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار، نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يجب أحداً منهم ولا رد إليهم بصره، وظل ينحط (أي يزفر) ويزأر زئير الأسد، حتى فرق من حوله. وتبادروه وإنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة، لا يبصر من حوله، ولا يرد حوارا، ثم دفع الراية إلى ابنه محمد، ثم حمل حملة ثانية وحده، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدماً قدماً، والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتى خضب الأرض بدماء القتلى، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته، فاعصوصب به أصحابه، وناشدوه الله في نفسه وفي الاسلام، وقالوا: إنك إن تصب يذهب الدين، فأمسِك ونحن نكفيك. فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة. ثم قال لمحمد ابنه: هكذا تصنع يا بن الحنفية، فقال الناس: من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين؟! ( يتبع )