الإمام محمد الجواد الإمامة العالمة

في السّنة المئتين والأربع للهجرة، جاء أعيان من العباسيّين إلى الخليفة المأمون معترضين على نيَّته تزويج ابنته أمّ الفضل من الامام محمد بن علي بن موسى الرضا الملقب بالإمام الجواد (توفي في ذي القعدة عام220هـ). لم يُخفِ العباسيّون يومها خشيتهم من ذلك..لكنّ المأمون لم يجبهم على ذلك، وبقي مصرّاً على موقفه، فيما راحوا يشكّكون في علم الامام الجواد، متذرّعين بصغر سنّه.يومها غضب المأمون لكلامهم وقال لهم: (ويحكم، انّي أَعْرَفُ بهذا الفتى، انّه لأفقه منكم وأعْلَم بالله ورسوله وسنّته وأحكامه، وأقْرَأ لكتاب الله منكم، وأعْلَم بمحكمه ومتشابهه، وظاهره وباطنه، وناسخه ومنسوخه، وخاصّه وعامّه، وتنزيله وتأويله..وسيظهر لكم ذلك ان لم يكن عاجلاً فآجلاً، كما ظهر لي، وان شئتم فامتحنوه، وادعوا من رغبتم بمناظرته).



رضوخ واعتراف:

عندها رضخ العباسيّون، وقالوا: (لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه، فخلِّ بيننا وبينه، لننصّب من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشَّريعة، فان أصاب في الجواب عنه، لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وان عجز عن ذلك، فقد كفينا الخطب في معناه..).
وفي اليوم المحدَّد، جلس الإمام على حداثة سنِّه، في مواجهة قاضي القضاة يحيى بن أكثم، وكان عالماً مجرَّباً كبير السّنّ، وقد جلس بحضور المأمون وعلماء البلاد والأعيان..وبدأت المناظرة...بدأ ابن أكثم يسأل في أعقد المسائل وأكثرها جدلاً، والامام يجيب، وبكلِّ دقَّةٍ وتفصيلٍ وتوسّع في البيان..بعدها، طلب المأمون من الامام ان يسأل بدوره ابن أكثم، ففعل، فاحتار قاضي القضاة بالجواب، وعجز عنه هو وكلّ الحاضرين، وأجاب عنها الامام..
عندها أقبل المأمون على كلِّ الحاضرين قائلاً: (ويحكم، ان أهل هذا البيت خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل.وان صغر السّنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.أما علمتم ان رسول الله افتتح دعوته بدعوة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقَبِلَ منه الإسلام وحكم له به، ولم يدعُ أحداً في سنِّه غيره؟ قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين).ولم يستطع العباسيّون بعد ذلك الاعتراض، وتمّ الزَّواج، حيث تزوَّج الامام الجواد من أمّ الفضل، وبمهر الزّهراء عليها السلام، وغادر الامام الى المدينة ليتابع دعوته ودوره الرّساليّ.
هذا هو الامام الجواد، الامام التّاسع من أئمّة أهل البيت عليهم السلام، الذي ولد في العاشر من شهر رجب..وهو على الرغم من عمره القصير الّذي عاشه، حيث لم يتجاوز على أبعد الرّوايات السادسة والعشرين ترك الكثير من الأحاديث، وأجاب عن آلاف المسائل في الفكر والفقه وتفسير القرآن والفلسفة وعلم الكلام، وغير ذلك من مسائل العلم، وكان مقصداً ومرجعاً للعلماء والنّاس جميعاً.
وشأن كلّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام، لم تقتصر امامة الجواد على التفرّغ لشؤون التّشريع والفقه والبحث فيها، على الرغم من أهميّة هذا الدّور، لأنّ دوره الكبير كان في ان يبقى الإسلام نقيّاً صافياً كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..من هنا، كان حرص الامام على ترجمة هذا الدّين الى حركةٍ تنزل الى أرض الواقع، ليكون إسلاماً يتحرّك عبادةً وأخلاقاً ومعاملةً وسلوكاً ومحبّةً وإنسانيّة.