بين طاووس وزين العابدين : 1 من 3 - الشيخ علي حسن


عن طاووس بن كيسان اليماني الذي يعد من علماء التابعين وروى عن الصحابة (ت106) أنه قال: (رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب يدعو ويبكي في دعائه فجئته حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين ـ الإمام زين العابدين ـ فقلت له: يا ابن رسول الله رأيتك على حالة كذا، ولك ثلاثة أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنك ابن رسول الله، والثاني: شفاعة جدك، والثالث: رحمة الله. فقال: يا طاوس أما أني ابن رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول: [لا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ]، وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني لأن الله تعالى يقول: [وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى]، وأما رحمة الله فإن الله تعالى يقول إنها قريبة [مِّنَ الْمُحْسِنِينَ]، ولا أعلم أني محسن).
روحانية عالية:
لهذا الحوار والمشهد العرفاني دلالات متعددة، من بينها ضرورة أن نعيش شيئاً من هذه الروحانية العالية في العلاقة مع الله سبحانه، لاسيما في الأماكن المقدسة والأوقات المميزة التي توفِّر للمسلم أجواء الصفاء، وتحطم الكثير من الحجب التي يصطنعها في علاقته مع ربه.. أجواءٌ تعيش معها ملائكة الله حالة من الاستنفار في العلاقة بين عالم الشهود وعالم الغيب، في صورة تذكرنا بتلك التي تحدث عنها القرآن الكريم عن ليلة القدر: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) القدر: 3-5.
تواصي واغتنام للفرصة:
ومن هنا كان التواصي الدائم باغتنام تلك الفرص التي لربما لن تتكرر في حياة المعتمر أو الحاج، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (صَلاةٌ في مَسجِدي هذا أفضَلُ مِن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواهُ مِنَ المَساجِدِ إلاّ المَسجِدَ الحَرامَ، وصَلاةٌ فِي المَسجِدِ الحَرامِ أفضَلُ مِن مِائَةِ صَلاةٍ في هذا).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أكثِروا مِنَ الصّلاةِ والدّعاءِ في هذَا المَسجِدِ، أما إنّ لِكُلّ عَبدٍ رِزقًا يُجازُ إلَيهِ جَوزًا) أي مقدّرًا يجمع ويساق إليه.
إيثار ومحبة:
ولم تكن التربية الإيمانية في الإسلام لتخلق مؤمنين منكفئين على ذواتهم، يعيشون هموم الأنا فقط، في حاجاتهم الدنيوية، وفي علاقتهم بالغيب، بل كان إيمانهم منطلَقاً للتراحم والتعاون والمحبة والمصداقية.
ولذا فقد أثمرت تربية النبي وأهل بيته لأصحابهم على مستوى العلاقات الإنسانية بحيث عاشوا مع إخوانهم علاقة صادقة من حيث المشاعر، وعلاقة فاعلة من حيث التطبيق، حتى أن أحدهم لو سنحت له الفرصة لكي يدعو الله سبحانه وهو يرجو الاستجابة لخصوصية الزمان والمكان، فإنه يبادر للدعاء لإخوانه بظهر الغيب، تفاعلاً مع حاجاتهم، وتخلياً عن الأنا، وانصهاراً في الحقيقة التي وصفتها الآية القرآنية: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9) وعبّر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى).
ما دعوت إلا لإخواني:
وبين أيدينا صورة من تجليات هذه الحقيقة، فعن إبراهيم بن أبي البلاد أو عبد الله بن جندب وكلاهما من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام قال: (كنت في الموقف فلما أفضت لقيت إبراهيم بن شعيب فسلمت عليه وكان مصاباً بإحدى عينيه، وإذا عينه الصحيحة حمراء كأنها علقة دم، فقلت له: قد أصبت بإحدى عينيك وأنا والله مشفق على عينك الأخرى، فلو قصرت من البكاء قليلاً. فقال: لا والله يا أبا محمد ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة. فقلت: فلمن دعوت؟ قال: دعوت لإخواني. سمعت أبا عبد الله ـ الإمام الصادق ـ عليه السلام يقول: من دعا لأخيه بظهر الغيب وَكَّل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه، فأردت أن أكون أنا أدعو لإخواني، ويكون الملَك يدعو لي، لأني في شك من دعائي لنفسي، ولست في شك من دعاء الملَك لي).
تواضع وخشية:
ومن دلالات الحوار بين طاووس والإمام زين العابدين عليه السلام الإحساس الصادق عند الأئمة من أهل البيت عليهم السلام بالضعف أمام الله انطلاقاً من حقيقة العبودية، والخشية منه إيماناً بعدله، والرجاء لنيل عطاياه الفاضلة تصديقاً بوعده.
وقد نقل حَبّة العُرني تفاصيل ما جرى بينه وبين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الليل وفي قصر الإمارة بالكوفة أبان حكم الإمام.. قال: (بينما أنا ونوف ـ البكالي ـ نائمان في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقية من الليل واضعاً يده على الحائط شبه الواله وهو يقول: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]، ثم جعل يقرأ هذه الآيات ويمر شبه الطائر عقله فقال: أراقد يا حبة أم رامق؟ قلت: رامق. ثم قلت: هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى ثم قال لي: يا حبة إن لله موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبة إن الله أقرب إليك وإليّ من حبل الوريد، يا حبة، إنه لن يحجبني ولا إياك عن الله شيء. ثم قال: أراقد يا نوف؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة. فقال: يا نوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله عز وجل قرّت غداً عيناك بين يدي الله عز وجل. يا نوف، إنه ليس من قطرة من عين رجل من خشية الله إلا أطفأت بحاراً من النيران، يا نوف إنه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله وأحب في الله وأبغض في الله، يا نوف من أحب في الله لم يستأثر على محبته ومن أبغض لم ينل مبغضيه خيراً عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان.. فكونوا من الله على حذر فقد أنذرتكما، ثم جعل يمر وهو يقول: ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عني أم ناظر إلي وليت شعري في طول منامي وقلة شكري في نعمك على ما حالي؟ قال: فوالله ما زال في هذا الحال حتى طلع الفجر).