الإمام الرضا : وارث الكتاب - الشيخ علي حسن


قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) فاطر:32-33.
أورث الله سبحانه وتعالى كل أمة سبقت أمة محمد صلى الله الله عليه وآله وسلم كتابها السماوي، بمعنى أنه حمّلهم مسؤولية حفظه ووعيه وتبليغه.. فانقسمت تلك الأمم إلى ثلاث فئات من حيث تحمل المسؤولية كما جاء في الآية الشريفة.. وذات الأمر انطبق على الأمة الإسلامية التي حُمِّلت مسؤولية القرآن الكريم، فانقسم المسلمون إلى فئات ثلاث: فئة تخلّت عن المسؤولية، ولربما عملت على خلافها، وفئة لم تبذل ما في وسعها بل اكتفت باليسير، وفئة كانت تجاهد في هذا الطريق.
عترة النبي:
وقد أخبر النبي صلى الله الله عليه وآله وسلم أن عترته هي الفئة السابقة بالخيرات، أي التي ستتحمل المسؤولية كاملة، لتمثل القيادة والمرجعية للناس، وذلك حيث قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وأعقب ذلك بقوله: (.. قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يلقياني وسألت ربي لهما ذلك فأعطاني، لا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فهم أعلم منكم).
أعلمية الإمام:
ومن هنا نؤكد دائماً على مسألة أن الإمام الذي يتحمل مسؤولية الرسالة بعد النبي صلى الله الله عليه وآله وسلم لابد وأن يكون أعلم الناس في زمانه بأمور الدين والشريعة، هذه الحقيقة التي عبّر عنها أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله فيما روي عنه: (إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعلمُهم بما جاؤوا به).
وقد روى الشيخ محمد بن علي الصدوق في كتابه (عيون أخبار الرضا) عن الريان بن الصلت قال: (حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]؟ فقالت العلماء : أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها .فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا عليه السلام: لا أقول كما قالوا، ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة. فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا: إنه لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ] ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال: [جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب] الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم. فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا: الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله: [إني مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلّموهم فإنهم أعلمُ منكم]).
سعة علم:
والذين عاصروا الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وعايشوه عن قرب أكدوا تمثّل هذه الحقيقة فيه، فعن أبي الصلت عبدالسلام بن صالح الهرويّ قال: (ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا، ولا رآه عالمٌ إلاَّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحدٌ منهم إلا أقرَّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور.. ولقد سمعت عليَّ بن موسى الرضا يقول: كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألةٍ أشاروا إليَّ بأجمعهم وبعثوا إليَّ بالمسائل فأُجيب عنها).
وعندما نستعرض سيرة الإمام الرضا(ع) في جهوده العلمية، ونتتبع النصوص المروية عنه في الجانب المعرفي نجد التنوع ماثلاً بصورة واضحة جلية. وما وصل إلينا قليل من كثير، فقد روي عن محمد بن عيسى اليقطيني قوله: (لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا، جُمعت من مسائله مما سُئِل عنه وأجاب فيه ثمانية عشر ألف مسألة).
ومع هذا فإن ما وصل إلينا يشمل أحاديث في المعارف القرآنية والمفاهيم الإسلامية، وفي العقيدة، وفي حوارات مقارنة الأديان، وقضايا الأخلاق والحكمة وغيرها، ولا نجدها تقتصر على الجانب الشرعي فقط، كما يتعامل الكثير منا مع المعرفة الدينية حين نختزل جلَّها في الأحكام الشرعية.
المعرفة الدينية الشاملة:
لا أريد الانتقاص من أهمية معرفة الأحكام، إلا أن المعرفة الدينية لا تقتصر عليها، ولكن للأسف نجد أن العقلية المتدينة قولبت في غالبها بالقالب الفقهي على حساب الكثير من جوانب المعرفة الدينية الأخرى، وهذا ما تدل عليه أغلب الأسئلة التي يطرحها الناس، مما يعكس موارد الاهتمام عندهم.
جسد بلا روح:
وحتى عندما نتناول الفقه نتناوله كجسد، فننزع الروح منه، وننشغل بالجسد إلى المستوى الذي يتحول إلى حالة شبه وسواسية، ونفقد بالتالي عطاءات المسألة الشرعية المرتبطة بالعبادة أو المعاملة، تماماً كما نطوف حول الكعبة، فيكون أكثر ما يشغلنا هو تأثير التدافع على صحة الطواف، وتجنب الالتفات المبطل، وتلفظ النية، والحفاظ على الوضوء وأمثال ذلك؟ وننسى لماذا نطوف.. وكيف نعيش هذه اللحظات مع الله، وكيف نعيش في أثنائه حالة السلام والوحدة مع سائر المسلمين لتكون منطلقاً في علاقاتنا اليومية، وكيف نفعّل مفهوم توحيد الله من خلال رمزية التوحيد في الطواف، وأمثال ذلك..
الحقيقة أن كل هذا يتبخر، أو يغيب من الأساس، لنقتل بالتالي روح العبادة ونبقى مستغرقين في التعامل مع الجسد الذي لن يعطينا الكثير، ونبقى نشتكي لماذا لا تؤثر العبادة فينا، ولماذا حججنا وعدنا كما كنا؟! ولماذا يشارك أحدنا في صلاة الجماعة وهو يبغض من يصلي إلى جانبه، حتى إذا أنهى الصلاة وقد دعى فيها (ربنا ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) لم تتبخر مشاعر البغض تجاه هذا الإنسان؟ ولماذا ولماذا؟
لقد كان العطاء المعرفي لنبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمة عليهم السلام من بَعده شمولياً، ولذا امتدَّ تأثيرهم في الحياة الإسلاميّة كلِّها والواقع الإسلاميّ كلِّه، وكان يواجهون كلَّ القضايا التي تتفاعل في المراحل التي عاشوا فيها، من قضايا الصراع الفكري والتنوّع المعرفي الديني.. إذ لم تكن مسؤوليتهم لتتأطر بحدود بيان الأحكام الشرعية، بل أن يرصدوا كلَّ الواقع الثقافي ليصحّحوا المفاهيم ويُبطلوا البدع ويقوّموا مسار الطريق عندما ينحرف الناس عن الصراط المستقيم.