خطبة الجمعة 19 من ذي القعدة 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى : الإحسان الإلهي


يمكن تصور العمل على ثلاثة أنحاء :ـ
1ـ ما يكون في مقابل الجزاء، بأن يلحظ العامل مقدار الأجرة التي ستدفع له، فإن كانت منخفضة بذل جهداً بمقدارها، وإن كانت مرتفعة ارتفعت همته معها. ومن البيّن أن هذا النوع من العمل تبرز فيه (الأنا) وحب الذات بقوة.
2ـ ما يكون من نوع الوفاء، بأن يلحظ العامل ما سبق إليه من عطاء فيتحرك إيجابياً نحو العطاء، دون توقع أي أجر في المستقبل، تماماً كما يفي الابن لوالديه بملاحظة ما قدماه له في ماضي حياته، ولاشك أن هذا النوع من العمل يُعدّ أرقى مرتبة من النوع الأول.
3ـ ما يكون من نوع الإحسان، بمعنى حب الخير والجود والعطاء لذاته من دون أي توقع أو ترقب لمقابلة من الطرف الآخر في المستقبل، ومن دون أن يكون هذا العطاء جزاءً على عمل صالح للمحسَن إليه في ما سبق. فالأم حين تقدم ذلك العطاء اللا محدود لابنها، فليس لتوقع العطاء من الابن في المستقبل، ولا وفاء لما قدمه الابن لها في الماضي. وهذا أرقى أنواع العمل الثلاثة، وهو ينبع من صافي فطرة الإنسان ويتدفق بالخير كأزكى ما يكون.
ـ ومن هنا خلد القرآن الكريم عطاء أهل البيت (ع) للمسكين واليتيم والأسير في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ) لماذا؟ لأنه أولاً إطعام (عَلَى حُبِّهِ) وثانياً لأنه (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا).
ـ ومن هنا أيضاً كان الجزاء الإلهي متميزاً لمثل هذا العمل الخالص الذي لا يمكن أن يوزن بموازين البشر أبداً، وهو ما يلحظ بتلاوة الآيات اللاحقة للآية لاسابقة.
ـ كل هذا في إطار إحسان البشر، أما الإحسان الإلهي فهو شئ آخر:
1ـ لأن عطاء الله غير محدود (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) البقرة:212.
2ـ وعطاؤه لكل مخلوقاته، الكافر منهم والمؤمن، الحي والميت. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الأعراف:156
3ـ وعطاؤه دون فضل من أحد نحوه ، ودون حاجة منه إلى أحد ، فهو الغني المطلق (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر:15.
4ـ والثواب من الله من نوع الجزاء لا من نوع المكافأة، ففي المكافأة يُلحظ التكافؤ الكمي والكيفي بين العمل والجزاء، بينما الجزاء لا يلحظ فيه عنصر الموازنة بينهما، ولذا لا تجد في القرآن الكريم تعبيراً بالمكافأة بل الجزاء، فعطاء الله في الآخرة من نوع العمل، لا بوزنه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) النجم:31.
5ـ ثم أن الله تعالى بواسع إحسانه يختار من عمل كل عامل أفضله، بمعنى أن درجات الصلوات التي يأتي بها الفرد متفاوتة، فيجزيه الله سبحانه باختيار أعلاها درجة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل:97.
6ـ والله تعالى يزيد عبده من عنده ما شاء من فضله ورحمته (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) النور:38.
ـ بمثل هذا الإيمان بسعة الرحمة الإلهية تتعلق قلوب المؤمنين بالعطاءات الإلهية، وتنفتح لهم أبواب الأمل في أصعب المواقف، وتتضاعف هممهم للعمل الصالح والمسارعة في الخيرات، وترتفع أيديهم بالدعاء.
ـ اللهم يا حَبيبَ مَنْ تَحَبَّبَ إِلَيْكَ، وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ وَانْقَطَعَ إِلَيْكَ، أَنْتَ الْمحْسِنُ وَنَحْنُ الْمُسيئونَ فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبيحِ ما عِنْدَنا بِجَميلِ ما عِنْدَكَ يا كريم. اللَّهُمَّ أَعْطِنِا السِّعَةَ فِي الرِّزْقِ، وَالأَمْنَ فِي الْوَطَنِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ فِي الأَهْلِ وَالْمالِ وَالْوَلَدِ، وَالْمُقامَ في نِعَمِكَ عِنْدنا، وَ الصِّحَّةَ فِي الْجِسْمِ، وَالْقُوَّةَ فِي الْبَدَنِ، وَالسَّلامَةَ فِي الدّينِ، وَاسْتَعْمِلْنا بِطاعَتِكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَوْفَرِ عِبادِكَ عِنْدَكَ نَصيباً يا ولي الإحسان.