إلا تنصروه - الشيخ علي حسن

تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ بداية إعلان نبوته ودعوته إلى الإسلام لصور عديدة من الإساءة في أجواء العهدين المكي والمدني. وقد تحدث القرآن الكريم عن صور من تلك الإساءات، واختلفت أساليب المعالجة والمواجهة ورد الإساءة وفق المعطيات الظرفية، ولكن ما يجمعها هو الانتصار الإلهي لرسول الله وفق القوانين التي يدير بها الله سبحانه هذا الوجود، أعني أن الانتصار له لم يتم من خلال المعاجز والانتقام الشامل المدمّر: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة:40.
وعد إلهي:
وهذا هو الوعد الإلهي الذي يؤكد على أن الله لا يحتاج إلى أيّ عبدٍ من عباده في تحقيق إرادته بالنصر، سواء في إطار الدعوة، أو في إطار رد الإساءات المتوجهة لنبيه، لأنه وليّ القوّة في الحياة كلها، ولكن إرادته شاءت أن تسير الأمور وفق القوانين.. فإذا تخلى الناس عن نصرته، فإن الله لن يخذله، وسيوفر له أسباباً أخرى للنصر: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).
ومن جهة أخرى فقد أكد القرآن الكريم على تشابه هذه المعاناة مع معاناة الأنبياء السابقين: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات:52). ويمكن تقسيم تلك الإساءات إلى أقسام:
القسم الأول: في أجواء الدعوة:
في العهد المكي: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (الكوثر:1-3) حيث تنص الأخبار أن المشركين كانوا يسعون ـ بكلِّ وسائلهم وأساليبهم ـ لتدمير معنويات النبي وبالتالي إسقاط موقفه، ومن أساليبهم إهانته بالكلمات الجارحة النابية المؤذية، وأن بعض سفهاء قريش، كالعاص بن وائل، وأبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، وكعب بن الأشرف، قالوا عند موت القاسم ابن رسول الله: إن محمداً قد انقطع نسله، فلا جرم، لقد أصبح أبتر.
وغير خافٍ قيمة وجود الولد الذكر، ولاسيما في المجتمعات العربية: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل:58)، فهم في الوقت الذي يعيّرونه بذلك تعييراً اجتماعياً يتضمن كلامهم التلويح بشبهة التخلي الإلهي عن نبيه بادعاء انقطاع سبب استمرار الرسالة من بعده.
فنزلت هذه السورة، انتصاراً للنبي وفضحاً لما ستكشفه الأيام عن حال المستهزئين، إذ تؤكد بأن الله قد أعطاه الخير الكثير الذي سيمتد في كل حياته، وفي ما بعده، ولن ينقطع ذِكرُه أبداً، ولن يفنى نسله أبداً، ولن يكون أبتر.. بل إن الذين يقفون ضدّه هم الأَوْلى بهذه الصفة.
في العهد المدني: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:46)
فعندما كان النبي يدعو اليهود إلى الإسلام، كانوا يقولون بما يصوّرونه على أنه نوع من الأدب في الكلام، في الوقت الذي كان يمثل فيه الإهانة: (سمعنا، وأنت اسمع لنا، وراعنا) والكلمة الأخيرة تحمل في العبرية معنى مغايراً لما هو عليه في العربية إذ تعني عندهم (لا أسمعك الله)! وجاء الانتصار الإلهي للنبي بفضحهم.
القسم الثاني: في الأجواء الاجتماعية العامة لحياة النبي:
وصدرت بعضها من المنافقين وبعضها من المسلمين لأسباب مختلفة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في قضية الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11)
فمن النصوص ما يؤكد أن القضية تخص أم المؤمنين عائشة وفي بعضها أم المؤمنين مارية، وعلى هذا الأساس فستكون الآية نموذجاً لإساءة وقحة لأسرة النبي وبالتالي للنبي نفسه، لاسيما بلحاظ التساهل في نقل الإشاعة من قبل المسلمين أنفسهم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15)
وجاء الانتصار بالوعيد بالعذاب الأليم لمن يقف وراء الإشاعة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (النور:19)، وبالتهديد العنيف لمن ينشرها ولو سفهاً: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:14).

المثال الآخر يتضمن عدة إساءات وتخص تصرفات المسلمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا)(الأحزاب:53).
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتأذى من تصرفات بعض المسلمين تجاهه وتجاه أسرته، من قبيل إطالتهم الجلوس في بيته انتظاراً للطعام، أو بعد تناوله، وكذلك من خلال الوقوف عند باب بيته والتحدث إلى زوجاته، بل إلى مستوى حديث بعضهم عن تمنياته للاقتران ببعض زوجات النبي بعد وفاته!
وجاء الانتصار الإلهي للنبي هذه المرة بنزول هذه الآية وآيات أخرى تنظم العلاقة الاجتماعية بالنبي وأهله، وترشد زوجاته لبعض الملاحظات: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب:32-33).
المثال الثالث ما جاء في قضية زينب وزيد: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشاهُ) (الأحزاب:37)، والآية تعكس قلقاً عند النبي من ردة فعل الناس في أقاويلهم المسيئة إليه بالمستوى الذي أخفى فيه ما أخبره الله به مما ستؤول إليه الأمور، وجاء الانتصار للنبي بتقوية موقفه وسد الباب أمام أقاويلهم المؤذية.
القسم الثالث: فيما يخص إدارة أمور المسلمين:
ومن أمثلته الحديث الخاص ببعض اتهامات المنافقين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والطعن في عدالته: (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ... وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة:58-61).
واللمز بمعنى الإعابة، وهذه إساءة، والإساءة الأخرى تشير إلى ما روي من أن عبد الله بن نبتل كان منافقاً وكان يقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين، فنزل جبرئيل يفضحه، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فحلف أنه لم يفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد قبلت منك فلا تفعل، فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمداً أذن، أخبره الله أني أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبله، وأخبرته أني لم أقل ولم أفعل فقبله، فجاء الانتصار للنبي بفضحه، وببيان أن النبي لا يقبل ما يسمع من الناس عن اقتناع، بل يظهر القبول لئلا يحرج المعتذر أو يكذّب القائل، انطلاقاً من سماحته وحسن أخلاقه.
نصرة النبي:
وهكذا عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجات من الإساءة إليه في حياته، ولم نستعرض إلا جزء يسيراً منها، إلا أن ذلك كله لم يُخرجه عن اتزانه في التعامل مع المسيئين إليه حتى وهو يعاقبهم، هذا إن لم يعفُ عنهم.. وأما الانتصار الإلهي لنبيه فقد جرى وفق الأسباب لا بالطريقة الإعجازية ولا بالوسيلة التدميرية الشاملة.. وكما تعددت طرق الانتصار الإلهي للنبي وفق الظروف المتغيرة، فإن علينا أن ننوع في الأساليب التي من خلالها نؤدي مسؤوليتنا في هذا الإطار.