التكفير وسبل مواجهته 2 من 3 - السيد جعفر فضل الله

ضمن الحديث حول المعالجة الثقافية للظاهرة التكفيرية نقول: لا نستطيع أن نتغاضى عن دور السلطة السياسية التي قد تستثمر أيّ رأيٍ تكفيريّ في حرفه عن مغزاه، أو في تجاوزها لشروط يتمّ وضعها في الفتوى نفسها، أو في تناسي التصوّر الذي على أساسه صدرت فتوى التكفير؛ لأنّ الفتاوى في جُلّها عبارة عن فرضيّات مشروطة بتوفّر المبدأ على أرض الواقع، بحيث إنّ الإنسان العاديّ لو اطّلع على أنّ الواقع خلاف الفرضيّة، لم يكن له السير مع الفتوى، لأنّ النظريّة على المجتهد، وتشخيص واقعها هو على المكلّف بطبيعة الحال... وأيّاً كان، فإنّ تبنّي السلطة السياسية لتوجّه معيّن، وتكريسه عبر تطبيق عمليّ واقعيّ، يُمكن أن يؤدّي إلى تحويل التكفير من حالة ثقافيّة فكريّة مجرّدة، إلى حالةٍ سياسيّة تدخل في إعطاء السلطة السياسية لنفسها شرعيّة ما، لتصفية حسابات أخرى مع الجماعات المعارضة للحكم، أو خدمةً لمشاريع خارجيّة، مستغلّةً وجود ظرفٍ مؤاتٍ لذلك، وهو الواقع المذهبيّ المحموم الذي يمنع العلماء الموافقين مذهبيّاً لمتبنّي السلطة، أو لمُصدر الفتاوى والآراء التكفيريّة، من بيان الحقّ، حذراً من سخط العامّة من الناس. وهو ما نشهده في واقعنا الحاضر، حيث نرى كثيراً من حالات السكوت عمّا يجري على أرض الواقع من تأزيم مذهبيّ وتكفيرٍ إلى حدّ لا يقبله منطق، وحملات سبّ وشتمٍ ولعنٍ وفقدانٍ لأيّ أدبٍ في التعبير عن الاختلاف وما إلى ذلك؛ لأنّ المعتدلين باتوا يشعرون بأنّهم سيُنبذون من ناسهم إذا ما تفوّهوا بخلاف المزاج العامّ المأزوم.
ولعلّه لا بأس هنا باستدعاء كلمةٍ للإمام عليّ عليه السلام الذي واجه أبرز حالة تكفيرٍ في الأمّة، وهي حالة الخوارج، فهو لم يقاتلهم لمجرّد تكفيرهم إيّاه، بل حاول إقناعهم بالحوار بشتّى الطرق والأساليب، وإنّما حاربهم بعد أن قطعوا طريق المسلمين، وقتلوا الخبّاب وزوجته، أيّ بسبب تحوّلهم إلى حالة عدوانٍ على المجتمع، وإلى حالة فسادٍ قابلة للتطوّر في منحى خطير، متغذّين من حالة نفسيّة إلغائيّة للجميع، تستند إلى فهمٍ منغلق على الإسلام ونصوصه.
واللافت أنّ عليّاً عليه السلام قال بعد وضع الحرب معهم أوزارها: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) ليُعلن المنهج الإسلامي المائز بين تبنّي الباطل من موقع سلامة النيّة، وتبنّيه من موقع سوء النيّة، حيث يكون الكُفر هو أن يعلم الإنسان بالباطل فيعتقد به، لا من يعتقد بشيء على أنّه الحقّ في قناعته واجتهاده أو تقليده؛ فإنّ الثاني لا يُمكن تكفيره وإن كان الواقع في علمِ الله أنّ اعتقاده باطلٌ، فضلاً عن أن نكفِّره بناءً على اعتقاد آخر لفكرةٍ على أنّها تمثّل الحقّ في الواقع، ممّا يُحتمل فيه الخطأ، شأنُه شأن الأوّل.
ولعلّ من المهمّ في إدارة الحوار مع التكفيريّين، عدم الاستغراق في التحليل المعمّق لقضايا التكفير وما يرتبط بها في عالم الفكر والاجتهاد؛ لأنّ التكفيري ـ في الغالب ـ ذو ثقافة معلّبة، غير قابلة للتفكير الناقد، وبالتالي لتغيير القناعة، ولذلك نجد نهي الإمام عليّ عليه السلام لابن عبّاس عن محاججة الخوارج بالقرآن؛ قائلاً: (لا تخاصمهم بالقرآن؛ فإنّه حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون)، ممّا يجعل ذا الفكر المغلق يتمسّك بالوجه الذي يؤكد وجهة نظره دون التعمّق لتحديد الوجه المقصود حقيقةً، (ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً).