خطبة الجمعة ـ 12 ذوالقعدة 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الأئمة ورثة القرآن


ـ قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) فاطر:32-33.
ـ أورث الله الأمة الإسلامية القرآن الكريم، فانقسموا إلى فئات ثلاث، أخبر النبي(ص) أن عترته هي الفئة السابقة بالخيرات، أي التي ستتحمل المسؤولية كاملة، لتمثل القيادة والمرجعية للناس.. وأن تجاوزهم يعني الخسران، وذلك حيث قال(ص): (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وأعقب ذلك بقوله: (.. قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يلقياني وسألت ربي لهما ذلك فأعطاني، لا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فهم أعلم منكم).
ـ ومن هنا نؤكد دائماً على مسألة أن الإمام الذي يتحمل مسؤولية الرسالة بعد النبي(ص) لابد وأن يكون أعلم الناس في زمانه بأمور الدين والشريعة، هذه الحقيقة التي عبّر عنها أمير المؤمنين علي(ع) بقوله فيما روي عنه: (إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعلمُهم بما جاؤوا به).
ـ وقد روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الريان بن الصلت قال: (حضر الرضا(ع) مجلس المأمون بمرو وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]؟ فقالت العلماء : أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها .فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا(ع): لا أقول كما قالوا، ولكني أقول : أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة. فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا (ع): إنه لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: [فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير] ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال: [جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب] الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم. فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا (ع): الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: [إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً] وهم الذين قال رسول الله (ص): [إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلّموهم فأنهم أعلمُ منكم]).
ـ والذين عاصروا الإمام الرضا(ع) وعايشوه عن قرب أكدوا تمثّل هذه الحقيقة فيه، فعن أبي الصلت عبدالسلام بن صالح الهرويّ قال: (ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا(ع) ولا رآه عالمٌ إلاَّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحدٌ منهم إلا أقرَّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور.. ولقد سمعت عليَّ بن موسى الرضا(ع) يقول: كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألةٍ أشاروا إليَّ بأجمعهم وبعثوا إليَّ بالمسائل فأُجيب عنها).
ـ وعندما نستعرض سيرة الإمام الرضا(ع) في جهوده العلمية، ونتتبع النصوص المروية عنه في الجانب المعرفي نجد التنوع ماثلاً بصورة واضحة جلية. وما وصل إلينا قليل من كثير، فقد روي عن محمد بن عيسى اليقطيني قوله: (لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا(ع)، جُمعت من مسائله مما سُئِل عنه وأجاب فيه ثمانية عشر ألف مسألة).
ـ ومع هذا فإن ما وصل إلينا يشمل أحاديث في المعارف القرآنية والمفاهيم الإسلامية، وفي العقيدة، وفي حوارات مقارنة الأديان، وقضايا الأخلاق وغيرها، ولا نجدها تقتصر على الجانب الشرعي فقط، كما نتعامل نحن اليوم مع المعرفة الدينية حين نختزل جلَّها في الأحكام الشرعية.
ـ لا أريد الانتقاص من أهمية معرفة الأحكام، إلا أن المعرفة الدينية لا تقتصر عليها، ولكن للأسف نجد أن العقلية المتدينة قولبت في غالبها بالقالب الفقهي على حساب الكثير من جوانب المعرفة الدينية الأخرى.
ـ وهذا ما تدل عليه أغلب الأسئلة التي يطرحها الناس، مما يعكس موارد الاهتمام عندهم.
ـ نحن عندما نتناول حديثاً من قبيل المروي عن الرضا(ع): (لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان، حتى يكون فيه ثلاث خصال: التفقّه في الدين، وحُسنُ التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا) ينصرف تفكيرنا عادةً إلى الجانب الفقهي لا أكثر، وننسى تفسير القرآن والعقيدة والأخلاق والمفاهيم الإسلامية والحكمة، وكلها ذات علاقة مباشرة بحياتنا اليومية. كما نتصور أن كلمة تفقه تعني تعلم الفقه بينما هي بمعنى التعلم.
ـ وحتى عندما نتناول الفقه نتناوله كجسد، فننزع الروح منه، وننشغل بالجسد إلى المستوى الذي يتحول إلى حالة وسواسية، ونفقد بالتالي عطاءات المسألة الشرعية المرتبطة بالعبادة أو المعاملة.
ـ نحن مقبلون على الحج، وسنطوف حول الكعبة، فما هو أكثر شئ يشغلنا ونحن نطوف؟ أليس هو الخطوات والالتفات وتلفظ النية والحفاظ على وضوئنا وأمثال ذلك؟ وننسى لماذا نطوف.. وكيف نعيش هذه اللحظات مع الله، وكيف نعيش في أثنائه حالة السلام والوحدة مع سائر المسلمين لتكون منطلقاً في علاقاتنا اليومية، وكيف نفعّل مفهوم توحيد الله من خلال رمزية التوحيد في الطواف، وأمثال ذلك..
ـ الحقيقة أن كل هذا يتبخر، أو يغيب من الأساس، لنقتل بالتالي روح العبادة ونبقى مستغرقين في التعامل مع الجسد الذي لن يعطينا الكثير، ونبقى نشتكي لماذا لا تؤثر العبادة فينا، ولماذا حججنا وعدنا كما كنا؟!
ـ مَن منا يسأل: لماذا دخلتُ صلاة الجماعة وأنا أبغض من يصلي إلى جانبي، وأنهيت الصلاة وقد دعوت فيها (ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) ولم تتبخر مشاعر البغض تجاه هذا الإنسان؟ وفي المقابل ما أكثر من يسأل أسئلة من قبيل: ما حكم الصلاة لو قلت (سبحان الله) بالكسرة لا بالسكون؟
ـ لقد كان العطاء المعرفي لنبينا الأكرم(ص) وللأئمة(ع) من بعده شمولياً، ولذا امتدَّ تأثيرهم في الحياة الإسلاميّة كلِّها والواقع الإسلاميّ كلِّه، وكان يواجهون كلَّ القضايا التي تتفاعل في المراحل التي عاشوا فيها، من قضايا الصراع الفكري والتنوّع المعرفي الديني.. إذ لم تكن مسؤوليتهم لتتأطر بحدود بيان الأحكام الشرعية، بل أن يرصدوا كلَّ الواقع الثقافي ليصحّحوا المفاهيم ويُبطلوا البدع ويقوّموا مسار الطريق عندما ينحرف الناس عن الصراط المستقيم.