بر الوالدين - الشيخ علي حسن ـ برمنجهام

أولى القران الكريم اهتماماً بالغاً بالوالدين فتكررت منه الوصايا بهما في أكثر من موضع ومناسبة، والملاحظ في ذلك أمور:
اقتران البر بهما بالعقيدة:
قرن الإحسان إليهما بأهم أصل من أصول العقيدة فقال تعالى :(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا (الاسراء:23 ، فالتوحيد ليس حالة تجريدية نظرية يعيشها الإنسان في عقله، بل أساس تتفرع عنه الكثير من الالتزامات التي يُراد لها أن تحقق للإنسان إنسانيته في أرقى صورها: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(التين:4-6)، ومن أهم تلك الالتزامات التي تؤكد الطاعة لله وترتقي بالإنسان في أخلاقه وسلوكه وقيمته الاجتماعية وقيمته الأخروية: الإحسان إلى الوالدين.
وفي الكافي حديث رائع عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقدّم صوراً سريعة لانتزاعات مفاهيمية من القرآن تخص هذا الإحسان والبِر بالوالدين، فعن أبي ولاد الحناط قال: [سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ (وبالوالدين إحسانا) ما هذا الاحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما] بكل ما لكلمة الإحسان من صور، ابتداء من الابتسامة والتحية الطيبة وتقبيل الرأس واليد واستعمال الأسلوب الأمثل في الكلام مروراً بالمساعدة وقضاء الحوائج إلخ [وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، أليس يقول الله عزّ وجلّ: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون)؟] فإذا كنت تؤمن بأن عليك أن تتعامل مع الغريب المحتاج بهذه الروحية، فمن الأولى أن تعامل والديك بهذه الصورة [قال: ثم قال أبو عبدالله عليه السلام: وأمّا قول الله عزّ وجل: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) قال: إن أضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما إن ضرباك: قال: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما] أي لا تحدق فيهما [إلا برحمة ورقة] بحيث يكون التحديق مقروناً بابتسامة الرضا والحب والحنان والمشاعر الطيبة لا تحديق الغاضب الكاره المحتقر اللائم المتمني لموتهما والخلاص منهما [ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدم قدامهما].
وفاء بالميثاق السماوي:
وأكّد القرآن الكريم على أن الوفاء معهما يمثل وفاء بعهد وميثاق أُخِذ على الإنسان: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ((البقرة:83). ولا يخفى أن مثل هذا التنبيه على أخذ الميثاق من بني إسرائيل يتضمن دعوة للمسلمين أيضاً للالتزام إيماناً بوحدة الخط العام للرسالات والتشريعات السماوية.
ومن جديد نلحظ الاقتران المباشر ما بين التوحيد والعبودية لله من جهة، وما بين الإحسان إلى الوالدين من جهة أخرى كأول انعكاس عملي للبعد الاجتماعي في الإيمان بالله سبحانه، باعتبار أن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وهي مدرسة الأجيال، وهي التي تفرز الإنسان الصالح أو الفاسد، فكان من الضروري تأسيس العلاقة السليمة بين مكوناتها، ولعل التركيز على الإحسان إلى الوالدين دون إحسان الآباء بالأبناء باعتبار أن الثاني حالة غريزية طبيعية لا تحتاج إلى مزيد عناية، بخلاف الأولى التي قد نشهد فيها تمرداً في حالات كثير.
قلب أمي:
كتب الشاعر والأديب الفرنسي (لامارتين) قصيدة في هذا الإطار عرّبها الشاعر اللبناني إبراهيم المنذر، ثم نسج أبياتاً مكملة لها، قال (لامارتين) ما ترجمته:
أغرى امرئ يوما غلاما جاهلا بنقوده كيما ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الدراهمُ والجواهرُ والدُّرَر
فمضى وأغرز خِنجرا في صدرها والقلبُ أخرجَه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى فتدحرج القلب المُقطَّع إذ عثَر
ناده قلبُ الأم وهو معفّـر ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
هنا يكمل الشاعر اللبناني الأبيات من نظمه وعلى نفس النسق:
فكأن هذا الصوت رغم حنوِّه غضبُ السماء على الغلام قد انهمر
ودرى فظيعَ خيانةٍ لم يأتها أحد سـواه منـذ تاريـخ البشـر
فارتد نحو القلب يغسله بما اجرت دموع العين من سيل العِبر
ويقول يا قلبُ انتقم مني ولا تغفر فإن جريمتي لا تُغتفر
واذا غفرتَ فانني اقضي انتحارا مثلما بُغاث قبلي انتحر
واستل خِنجرَه ليقتلَ نفسَه طعنا فيَبقى عبرةً لمن يعتبر
ناداه قلبُ الأم كُفَّ يداً ولا تَذبح فؤادي مرتين على الأثر
الإساءة لهما نقض للميثاق:
وجاء التحذير من نقض عهد الله بشكل يتناسب مع حجم ذلك العهد والميثاق المتضمن للإحسان إلى الوالدين: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ((الرعد:25). واللعنة إبعاد من رحمة الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
تجبر وشقاء:
وتعكس الإساءة للوالدين في المفهوم القرآني صورة من صور الشقاء والتجبر، وهذا ما نلاحظه في وصف القرآن لشخصية النبي يحيى عليه السلام: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ( (مريم:14)، وعن السيد المسيح عليه السلام: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) مريم:32، ونلاحظ الارتباط بين البر بالوالدين وبين عدم الكون من الجبارين، الذين يعيشون الغطرسة والتكبر لا على مستوى الشعور فحسب، بل السلوك أيضاً، وهذا ما ينبغي التنبيه إليه ـ خاصة الشباب في عنفوان قوتهم ـ إلى ضرورة الحذر من الاغترار بعناصر القوة بالمستوى الذي يطغون فيه حتى على الوالدين أو أحدهما.
ومن صور الطغيان العقوق بالتمرد والاحتقار والاستهانة والتعامل القاسي والتجاهل والإهمال، فضلاً عن الإهانة والسب والضرب والعياذ بالله. وهذا من أهم أسباب العقوق، الذي بلحاظ الآيتين ليس إلا من صور العصيان والتمرد على الله سبحانه، كما أنه من أسباب الشقاء الدنيوي والأخروي، لأن العاق لا بركة في حياته، بغض النظر عن المصير الأخروي.
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق الوالدين والبغي على الناس وكفر الإحسان)، وعنه: (يقال للعاق: اعمل ما شئت فإني لا أغفر لك) وعن الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام: (العقوق يُعقِب القلة ويؤدي إلى الذلة).
ابتهال:
في الصحيفة السجادية في دعاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام لوالديه: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَأَلْهِمْنِي عِلْمَ مَا يَجبُ لَهُمَا عَلَي إلْهَاماً، ثُمَّ اسْتَعْمِلْني بِمَا تُلْهِمُنِي مِنْـهُ، أللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وَأَبَرُّهُمَا بِرَّ الأُمِّ الرَّؤُوفِ، وَاجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وَبِرِّيْ بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ، حَتَّى أوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا وَأُقَدِّمَ عَلَى رِضَاىَ رِضَاهُمَا، وَأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وَإنْ قَلَّ، وَأَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وَإنْ كَثُرَ. اللَّهُمَّ وَمَا مَسَّهُمَا مِنِّي مِنْ أَذَىً أَوْ خَلَصَ إلَيْهِمَا عَنِّي مِنْ مَكْرُوه أَوْ ضَاعَ قِبَلِي لَهُمَا مِنْ حَقٍّ فَاجْعَلْهُ حِطَّةً لِذُنُوبِهِمَا وَعُلُوّاً فِي دَرَجَاتِهِمَا وَزِيَادَةً فِي حَسَنَاتِهِمَا يَا مُبَدِّلَ السَّيِّئاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ يا أرحم الراحمين).