هجْر القرآن - الشيخ علي حسن

قال الله سبحانه في وصف الحال يوم الحساب: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].‏ هذه الآية تمثل شكوى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إخبارٍ عن المستقبل، شكوى تنم عن تألمه وتبرئه من واقع حال المسلمين، فهو يعلن أنه لم يقصّر في ما كلفه به ربُّه، وأوصى المسلمين بكتاب الله معتبراً إياه الثقل الأكبر، فعن‏ ‏أبي سعيد الخدري‏ ‏قال: (‏قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ‏إني قد تركت فيكم الثقلين ‏أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ‏وعترتي ‏أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).. ولكن المسلمين ـ إلا القليل منهم ـ هجروا القرآن من بعده.
صور الهجر:
فما هي صور الهجر الذي حذرت منه نصوص عديدة، كقوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} [طه: 99-101]؟ وما هي الصورة المقابلة التي نُدب إليها؟
البعض يتصور أن هجر القرآن يتمثل في أن يقرأ في المصحف المهدى إليه ولو بضعة آيات، وبذلك لا يكون من الذين هجروا القرآن.. إلا أن الواقع أن هذه الصورة ليست هي المقصودة في ذاتها، فلهجر القرآن صور عديدة، منها:
1.هجر التلاوة:
وهي الصورة الأوضح والمتبادرة عادة، وقد جاء الحث على التلاوة حتى للإنسان المشغول ولو في الحد الأقل، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن، فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحى عشر سيئات).
وللأسف يتعامل البعض مع مسألة التلاوة بصورة آلية، فيسألون: ما هي المدة التي لا يجب على المؤمن هجر القرآن فيها تلاوةً؟ أو ما هو الحد الذي من بعده يكون الإنسان قد ارتكب المكروه في هجر تلاوة القرآن؟
مثل هذا التساؤل لا معنى له، فمن المفترض أن يكون التعامل مع القرآن تعاملاً تلقائياً لا تعاملاً رياضياً بالأرقام، ومثل هذا التعامل الرقمي يدل بذاته على نوع من الهجر والعلاقة غير السليمة بين المسلم وكتاب ربه.
2. هجر التدبر والفهم:
وهذا أقل تبادراً من المعنى الأول، فمن يتجنب الهجر من النوع الأول، قد تجده يقع بكثرة في هذه الصورة من صور الهجر، فيتحول إلى تالٍ لكلمات وجمل لا يدرك معناها، ولا يعرف فائدتها، وكيف يوظفها في حياته.. فهل كون القرآن نوراً كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء:174]، يتحقق بمجرد التلاوة؟ قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]. وعن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام أنّه قال: (آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر ما فيها). وجاء الذم لمن لا يتدبر فيه في قوله سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].‏
بالطبع لكل إنسان مستوى من القدرة على فهم القرآن، وهذا شئ طبيعي، فالمهم السعي في هذا الإطار، بفهم المفردات ومعنى الآية ولو بشكل بسيط. وهذا كان أسلوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعليم القرآن حيث كان يقرئ أصحابه عشر آيات ثم يعلمهم ما فيها من سبب نزول وحكم وغير ذلك، ثم ينتقل بعدها إلى الآيات الآخرى.
3. هجر مرجعية القرآن:
التلاوة والتدبر يفترض بهما أن يكونا مقدمة لاعتماد مرجعية القرآن الكريم باعتبارها الأساس في تكوين المعرفة الدينية (العقيدة ـ فهم القرآن ـ الأخلاق ـ الأحكام الشرعية ـ التاريخ ـ المفاهيم الإسلامية .. إلخ) بحيث نقدم حاكمية النص القرآني على أي دليل آخر.
ليس هذا بمعنى إبعاد السنة عن دائرة اعتبارها مصدراً للمعرفة الإسلامية، فالسنة هي المصدر الثاني بعد القرآن، سواء للتشريع أو للدائرة المعرفية الإسلامية الأوسع، ولكن بمعنى أننا نقيّم الحديث من خلال القرآن لا العكس كما يجري في كثير من الأحيان.
نظرياً، لا خلاف بين المسلمين على اعتبار القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي في تكوين المعارف الإسلامية في الحقول المختلفة كالعقائد والفقه والفلسفة والتاريخ والأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية وغيرها، وأنه هو الميزان والمعيار في تصويب الآراء والأفكار. إلا أن الواقع يشهد أن هذا الدور المرجعي ووظيفته المتعددة الأطراف ـ عملياً ـ أمر غير متحقق إلا في موارد محدودة.
التخلي عن وصية النبي:
وقد أشار أكثر من مفكر وباحث إسلامي إلى خطورة استمرار هذا الوضع، وحذّر العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان) من التبرير الذي يسوقه البعض بعدم إمكانية الاستفادة من ظواهر القرآن باعتبار أن علمها عند النبي والإمام، أو باعتبار أنها ليست بحجة، معتبراً أن هذا يعني التخلي عن وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالثقل الأكبر، ثم قال رحمه الله: (وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية وهى العلوم الدينية والأدبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نُظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمس مصحفاً قط. فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله).