الخلافات الفكرية والعقديّة - الشيخ حيدر حب الله

السؤال: إنني أواجه مشكلة، وهي أنّني أقف في المسائل العقائدية التفصيليّة حائراً بين الاختلافات التي تقع ما بين العلماء، ولست من أهل الاختصاص لكنّني مطّلع على هذه الأمور بشكل جيّد تقريباً، فإذا أردت أن أختار هذا الرأي كنت خائفاً، وإذا أردت أن أختار الرأي الآخر كنت كذلك، ويأتينا الشيخ الفلاني فيقدّم الأدلّة فنقتنع بها، ثم يأتينا الشيخ الآخر فيقدّم أدلةً على النقيض فنرى كلامه مقنعاً، فما هي وظيفتنا في هذه الحال؟ وهل نعمل بما هو المشهور بين المسلمين أو في المذهب الواحد أم نعمل بما نستحسنه مع أنّنا لسنا من أهل العلم والاختصاص؟
أجاب سماحة الشيخ حيدر حب الله على ذلك قائلاً: من الطبيعي أن يواجه المتديّن الذي لا يملك تخصّصاً في الدراسات الدينية مشكلةً كبيرة في ظلّ الاضطراب الفكري الحاصل في المجتمعات الإسلاميّة اليوم، ولا يختصّ هذا الأمر بالقضايا العقائديّة، بل هو يمتدّ لقضايا التاريخ والفكر والفلسفة والثقافة، وفي هذه الحال أوّل ما ينبغي فعله ـ بتقديري المتواضع ـ هو نبذ العجلة والتسرّع في إصدار الرأي واتخاذ المواقف؛ لأنّ طبيعة الموضوعات الفكرية والعقائدية والتاريخية ونحوها تحتاج لتقليب وجوه الرأي والنظر بعين فاحصة في المعطيات المتعاكسة للتوصّل إلى نتيجة، لهذا أعتقد أنّه ينبغي على الجميع عدم الاستعجال، لا بتبنّي فكرة ما ولا تبنّي نفي هذه الفكرة، بل المفترض الاطّلاع والمتابعة لو أحبّ، والاستماع إلى الأطراف المختلفة بذهنية منفتحة، فإذا حصل للإنسان أن اطّلع على جميع معطيات الموضوع بحيث يتمكّن ـ من الناحية الموضوعية ـ من أن يصدر حكماً في القضيّة التي لا تقليد فيها، فيمكنه تبنّي رأي والدفاع عنه إذا حصل على يقين به وعلم، وإلا فليس عليه ولا له حسم اختيار موقف، وإنّما يمكنه ترجيح موقف على آخر أو القول بأنّ هذا الرأي يبدو لي أنسب من ذلك دون أن يحسم المواقف والنتائج أو يتطرّف لقول أو ينحاز لرأي بشكل قاطع، وعبر هذه الطريقة يتمكّن المتديّن من تجنّب التورّط في القول بما لا علم له به من جهة، مع المشاركة بدرجة معيّنة في الجدل والحوار الدائر في القضايا الفكرية والمعرفية الدينية السائدة من جهة ثانية. قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (الإسراء: 36)، بناء على شمول هذه الآية الكريمة لما نحن فيه، وجاء في خبر عبد العظيم الحسني، عن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام ـ في حديث ـ قال: (ليس لك أن تتكلّم بما شئت؛ لأنّ الله عز وجل يقول: ولا تقف ما ليس لك به علم) (جامع أحاديث الشيعة 1: 99). وقد تعرّض الفقهاء المتأخّرون لموضوع مهمّ في ثنايا حديثهم عن حكم الكذب، فقالوا: هل يجوز القول بغير علم؟ وهل يعدّ القول بغير علم من الكذب أم أنّ الكذب هو القول بما نعلم خلافَه ونقيضَه؟ وقد اتفقت كلمة من بحث في هذا الموضوع على أنّ القول بغير علم في المسائل الدينية لا يجوز أبداً، سواء سمّيناه كذباً أم لم يصدق عليه اسم الكذب، وكان بحثهم ونقاشهم في حكم القول بغير علم فيما لا يتصل بشؤون الدين، كأن تقول بأنّ فلاناً موجود الآن في مكان عمله وأنت لا تعلم هل هو موجود أم لا، فالحذر كلّ الحذر من أن ننتصر لزيد أو عمرو قبل أن تكون الصورة واضحةً لدينا، وإلا حوسبنا على ذلك يوم القيامة.
وأمّا الحديث عن أقليّة وأكثريّة وعن المشهور وما هو خلاف المشهور، بحيث ينحاز الإنسان للرأي الفلاني؛ لأنّه يمثل الموقف التراثي أو لأنّه يمثل الموقف السائد، أو ينحاز للرأي الآخر؛ لأنّه جديد ويحوي تجديداً ونقداً وثورةً على التراث وإبداعاً في الفكر و.. أو الرجوع في حسم هذه الأمور إلى مرجع التقليد بحيث كلّ ما يقوله مرجعي في التقليد من قضايا عقديّة أو فكريّة أو ثقافيّة أو تاريخية فهو المعتمد وغيره لا حجّة فيه، فهذا كلّه لا أساس له من الصحّة إذا لم يحصل للإنسان منه علمٌ ويقين بالموضوع الذي يبحث عنه؛ لأنّ القضيّة العقديّة مثلاً لا قيمة للشهرة فيها ما دامت موضوعاً اجتهاديّاً، ولا قيمة لكلّ تلك الكلمات الرنّانة في التجديد والإبداع ما لم يقدّم لك مدّع التجديد دليلَه فيقنعك به اقتناعاً واعياً لا اقتناعاً اندفاعيّاً وشعاريّاً، فقد كفينا اللهث خلف الشعارات الكبيرة. وأمّا قضية الرجوع إلى المرجعيّة الدينية، فهذا من الخلط الشائع بين الناس، فإنّ المرجع يرجع إليه ـ بنحو يصبح قوله ملزماً ـ في خصوص الأمور الفقهية العمليّة، ولا يوجد لدينا مرجع في العقائد أو التاريخ يلزم الناس برأيه، وإنّما يوجد مرجع في التاريخ والعقائد بمعنى الرجوع إليه للاستفادة من علمه، بحيث لو اقتنعنا بما قال اخترنا قوله، وإلا فلسنا ملزمين بقوله، وهذا من الأخطاء الشائعة بين الناس في نهج تعاملهم مع مراجع التقليد، حيث لا يقبل مراجع التقليد أنفسهم في أبحاثهم العلميّة مثل هذه المرجعيّة، وإن مورست عفوياً في الوسط الاجتماعي للناس.
وأختم بضرورة عدم الاستسلام للأمزجة والانفعالات في هذه القضايا من أيّ جهة جاءت، فقد ورد في خبر أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول: (والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإنّ أسوأهم عندي حالاً وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث يُنسب إلينا ويروى عنا، فلم يقبله اشمأزّ منه وجحده وكفّر من دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا)، وهذا معناه أنّه من الضروري أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه من هذه القضايا، ولا نحكم بالسوء على بعضنا، ونحتكم في خلافاتنا للغة المنطق والحوار ومرجعية الكتاب والسنة والعقل.