الولاء السياسي والعقدي - الشيخ علي حسن - القاهرة

الولاء السياسي والعقدي


الشيخ علي حسن - القاهرة
بعد أن تمت مبايعة الإمام الحسن عليه السلام من قبل الناس على إثر استشهاد أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام خطب قائلاً: «نحن حزب الله الغالبون، وعترةُ رسولِه الأقربون، وأهلُ بيته الطيبون الطاهرون، وأحدُ الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله في أمَّته، والثاني كتابُ الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوَّل علينا في تفسيره، لا نتظنَّى تأويلَه، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فانَّ طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة الله عزوجل ورسولِه مقرونة، قال الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَان تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ الَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، {وَلَوْ رَدُّوهُ الَى الرَّسُولِ وَالَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان، فانه لكم عدو مبين فتكونوا أولياءه الذين قال لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَانِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ انِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ انِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} فتُلقون الى الرماح وِزرا [آثمين] والى السيوف جَزْرا [مذبوحين] وللعَمَد حُطُما، وللسهام غَرَضا، ثم {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا ايمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي ايمَانِهَا خَيْرًا}».

مشكلة المجتمع الكوفي:
من الواضح ان الإمام الحسن شخّص أهم مشكلة كان يعاني منها ذلك المجتمع الكوفي الذي وجّه اليه خطابَه، حيث ركز على مسألة الطاعة له، ومن منطلق قرآني عقدي.فعلى الرغم من حالة التشيع والنصرة التي كانت تغلب على ذلك المجتمع، الا أنه كان في مجمله تشيعاً سياسياً، فارغاً من المضمون العقدي، الأمر الذي أدى الى حالات عديدة من التمرد أو النكوص في الاستجابة لأوامر الحاكم، سواء أكان هو أمير المؤمنين علي عليه السلام أو الإمام الحسن المجتبى عليه السلام من بعده.
وقد شخّص أمير المؤمنين علي عليه السلام هذه الحالة من قبل اذ قال: «أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدةُ أبدانُهم، والغائبةُ عنهم عقولُهم، أظأرُكم [أُعطِفكم] على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة [صوت] الأسد ! هيهات ان أُطلِعَ بكم سرارَ العدل [أي تلمع بكم لوامع العدل، ويبرق وجهه] أو أقيم اعوجاجَ الحق [أي وأنتم على هذه الصورة].اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك.اللهم اني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني الا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة، وقد علمتم أنه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته.ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة، فيُهلك الأمة».

السياسة بين الحق والدجل:
هذه هي السياسة في مفهوم الإمام علي عليه السلام، وهذا هو معناها اللغوي، فعندما تعود الى معجم لغوي ستجد ان تعريف السياسة: (القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس، والولي يسوس رعيته).
ولكن السياسة ارتبطت في الذهنية العامة بالخديعة والغش والمصلحية والكذب وغير ذلك، ولما لم يجدوا ذلك عند على عليه السلام، كما لن يجدوه عند الحسن، لم ينسجم كثيرون معهما في سياستهما.وكيف ينسجمون مع علي وهو القائل: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على ان أعصي الله في نملة أسبلها جلب شعيرة ما فعلته»؟! قال ابن أبي الحديد: «وأما الرأي والتدبير: فكان من أسد الناس رأيا، وأصحهم تدبيرا..وانما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه.وقد قال عليه السلام: لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب.وغيره من الخلفاء يقصد من الأمويين والعباسيين كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن.ولا ريب ان من يعمل بما يؤدي اليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية الى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية الى الانتثار أقرب».

وضع مأساوي متفجّر:
هذا جانب من صورة الوضع الذي ورثه الإمام الحسن عليه السلام عن أبيه، فالسّياسة التي علّمهم الاسلام أنها اصلاح حال الناس أصبحت مجرَّد شعاراتٍ ابتعدت عن ان تكون أداةً لتأكيد الحقِّ والعدل في الحياة، وأرادوا لها ان تتحول الى أداة طيعة بأيديهم يستخدمونها وفق أهوائهم، لا دخولاً في طاعةِ مَن أمر الله بطاعته.وقد جاء في كتاب الإمامة والسياسة: «لما قُتل علي بن أبي طالب، ثار الناس الى الحسن بن علي بالبيعة، فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم، وقَبَض هو يده.فأتوا الحسين فقالوا له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله ان أبايعكم ما كان الحسن حيا.قال: فانصرفوا الى الحسن، فلم يجدوا بُداً من بيعته، على ما شرط عليهم».
مع هكذا نمط من الناس تعامل الحسن عليه السلام، ويبدو ان هذا الوضع استدعى من الإمام ان يتحدث اليهم بشكل واضح بعد مبايعته في أهم نقطة من نقاط الخلل الذي كان يعاني منه ذلك المجتمع، وهو ما أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليه ضمنياً بقوله: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» فتوليهما يجب ان يكون مطلقاً غير متأطر بحدود التوافق مع الرأي الشخصي أو المصالح الضيقة.
وتجلى الخلل بشكل كبير بعد ذلك أثناء الأحداث التي أدت في النهاية الى الرضوخ الى الصلح، وهو ما لم يتحمله بعض أنصاره، وهم ينظرون الى جانب محدود من الصورة المأساوية التي كانت جلية بكلها عند الإمام الحسن.