نعمة الحياء - السيد علي فضل الله

ذات يوم، وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه موجِّهاً وواعظاً، قائلاً لهم: (استحيوا من الله حقَّ الحياء) قالوا: يا رسول الله، انّنا نستحي والحمد لله قال: (ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء، فليحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت وطول البلى، وليترك زينة الدّنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله عزّ وجلّ حقّ الحياء).
الحياء مرادف للانسانيَّة الحقّة، وهو رأس مكارم الأخلاق، فلا يكون في شيء الا زانه، ولا يخلو منه شيء الا شانه وهذه الصِّفة هي ما اتَّصف بها رسول الله، وأشار اليها عندما تحدَّث عن صفات الله، وقال: (انَّ رَبَّكُمْ حَيِيّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ اذَا رَفَعَ يَدَيْهِ الَيْهِ ان يَرُدَّهُما صِفْراً)، (انَّ الله حييّ يستحي ان يعذّب شيبة في الاسلام).هذا وقد اعتبر رسول الله الحياء عنوان الاسلام: (لكلِّ دين خلق، وانَّ خلق الاسلام هو الحياء)، وأشار اليه عندما تحدَّث عمَّن يحبّهم الله فقال: (انَّ الله حييّ ستير، يحبّ الحياء والسّتر)، فمن اتَّصف بما يحبّه الله أحبَّه الله، بل وجعله الله من النّاس محبوباً ومقبولاً.

الالتزام بآداب التَّواصل
والحياء يبدأ بالحياء من الله سبحانه وتعالى، وهو الَّذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، نستحي ان يرانا ونحن نبادل نعمه الكثيرة بعدم المبالاة، ضاربين كلَّ أوامره ونواهيه بعرض الحائط، والحياء أيضاً يمتدُّ لتكتمل صورته في حركة الحياة، ليحكم علاقتنا بالنَّاس، فلا تحكمها الوقاحة أو الفجاجة أو البذاءة والدَّناءة، ان نستحي من ان نبادل جميل من أحسن الينا بتنكّرٍ واهمال وكلّ الوقاحة ان تردَّ احسان من أسدى اليك خدمةً، بالاساءة والأذيَّة، لينطبق عليك قوله: (اتّق شرَّ من أحسنت اليه).ان نستحي من النَّاس، يعني ألا نخرج عن الحدود والأصول في مظهرنا الَّذي نطلُّ به حتَّى على أهلنا والمقرَّبين منَّا، ففي موضوع الحياء لا تُرفع الكلفة أبداً، ولا حتَّى المزاح يسمح لنا بأن نخرج عن حيائنا بأقاصيص من هنا أو بنكاتٍ من هناك، حتَّى وان أصبح هذا الأمر شائعاً، وأصبح ملح الجلسات والرَّسائل وغيرهما حذار من انعدام الحياء فيما نُرفِّه به عن أنفسنا، فيما يعرض على الشَّاشات وتتنافس فيه المحطَّات من برامج تبرع في خدش الحياء لجلب المعلنين أكثر وكلّ همّ معدّيها ان تتضمَّن أكبر قدرٍ من البذاءات والتَّعابير الفاحشة.

ابتذال بعنوان التَّرفيه
أيُّ اسفافٍ وأيُّ ابتذالٍ هو ما يجري في واقعنا تحت عنوان التَّرفيه عن النَّفس، وان سألوا النَّفس عن حاجاتها، وأمكنها ان تنطق، لقالت ألبسوني حياءً، دثِّروني اتّزاناً ورزانة، هذا ما تحتاج اليه النَّفس.ان نستحي من أنفسنا فهو غاية الحياء، كما أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام، ان نستحي من ان نسيء الى أنفسنا، بأن لا نحترمها أو بأن نبدي معايبها، (ومن كساه الحياء ثوبه، خفي على النَّاس عيبه)، وقد قال الشَّاعر:
حياؤك فاحفظه عليك فانَّما
يدلُّ على فضل الكريم حياؤه
إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حياؤه
ولا خير في وجهٍ اذا قلَّ ماؤه

قد يقول قائل ان الموضوع نسبيّ بين النّاس، فما يراه البعض متفلّتاً قد يراه الآخر عاديّاً، أو ان هذا العصر له مفاهيمه الجديدة الّتي تختلف عن المفاهيم الماضية وقد تسمع مَنْ يقول ان ما كان عيباً في السّابق لم يعد عيباً الآن هذا ليس صحيحاً، فعلى مستوى الدّين القاعدة ثابتة، وهي: «حلال محمّد حلال الى يوم القيامة، وحرامه حرام الى يوم القيامة»، وعلى مستوى العرف، الكلّ يميّز بين ما هو مضبوط، ولاسيما على مستوى اللِّباس، وما هو متفلِّت، وكذلك يميِّزون بين السّلوك المنضبط والسّلوك المائع لهذا نقول لكلِّ من يختبئ وراء هذه الحجج: {بَلِ الانسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}[القيامة: 14- 15]، ولو ان قلَّة الحياء أصبحت عادة! ولو بات الحجاب بشكله الحاليّ يوحي بالسّفور أكثر مما يوحي بالحجاب! وهنا نقول: لو ان التَّربية تقوم على أساس فهم معنى الحجاب ومقصده، بأنَّه ستر لا يصِف ولا يشِف، وأنَّه أمر عباديّ وليس بزيّ، لأنّ الأزياء لا مشكلة في تبدّلها، ولكنَّ الأمر الثَّابت الّذي يجب ان نعيه، هو ان للسّتر وظيفةً وهدفاً، فلا نبقيه شكلاً من دون مضمون، ونخسر كلّ أجواء الحياء الّذي يُفترض بالحجاب ان يؤمِّنه.

التَّربية الايمانيَّة هي الضَّمان
ان الضَّمانة الأساس لتأكيد قيمة الحياء في نفوسنا هي بالتَّربية الايمانيّة، كما قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: (الحياء والايمان مقرونان في قَرَن، فاذا ذهب أحدهما تبعه الآخر)، ان نؤكِّد حضور الله في أنفسنا، في سرِّنا وخلوتنا، في ليلنا ونهارنا، وحدنا أو بين النَّاس ان نستحي ان يرانا ونحن نشير الى أمرٍ نهى عنه، ان نستحي من الملَكَيْن الجالسيْن على كتفينا يتابعان ما يرد منَّا.