الموت وخطاب العقل والروح - الشيخ علي حسن

عندما تحدث القرآن عن الموت، فقد تحدث عنه في بُعدين، فهو تارة يتحدث عنه من بعد عقدي، وهذا البعد بحد ذاته ينقسم الى أقسام: ما يرتبط بالايمان بقدرة الله سبحانه وصفاته: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر: 42.
ما يرتبط بالجانب التدبيري الخاص بالموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ الَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} السجدة: 11.
ما يرتبط بالايمان باليوم الاخر: {قُلْ ان الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَانَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الجمعة: 8.
وهناك حديث عن الموت في بُعده التربوي: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك:2.(وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ ان يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي الَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا اذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المنافقون: 10 - 11 .
الامام علي يصف الموت:
ولما كان من شأن القرآن الكريم ان يُجمل الحديث في الكثير من القضايا بما يحقق الغرض من الآية النازلة، فقد قام أمير المؤمنين علي عليه السلام بتفصيل ما تم اجماله ببيان ممتزج بالعمق في المفهوم والحكمة في المعنى والبلاغة في التعبير.ومن نماذج ذلك ما جاء في خطبة برقم (107) في «نهج البلاغة»: (خلقت دارا وجعلت فيها مأدبة: مشربا ومطعما وأزواجا وخدما وقصورا وأنهارا وزروعا وثمارا.ثم أرسلت داعيا يدعو اليها.فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا الى ما شوقت اليه اشتاقوا.أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئا أعشى بصره، وأمرض قلبه.فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة.قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه.فهو عبد لها، ولمن في يده شيء منها.حيثمازالت زال اليها وحيثما أقبلت أقبل عليها.ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ.وهو يرى المأخوذين على الغرة، حيث لا اقالة ولا رجعة كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون.فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت.ففترت لها أطرافهم، وتغيرت لها ألوانهم.ثم ازداد الموت فيهم ولوجا.فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وانه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه، على صحة من عقله، وبقاء من لبه.يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره.ويتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها.قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها.فيكون المهنأ لغيره، والعبء على ظهره.والمرء قد غُلقت رهونه بها.فهو يعض يده ندامة على ما أُصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره.ويتمنى ان الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه.فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانُه سمعَه.فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم.ثم ازداد الموت التياطا به، فقُبض بصره كما قبض سمعه.وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه.لا يُسعد باكيا، ولا يُجيب داعيا.ثم حملوه الى مخط في الأرض، وأسلموه فيه الى عمله، وانقطعوا عن زورته).
الموت وحديث العقل:
بمثل هذا التصوير الرائع يصف الامام ما يجري على الانسان عند الموت، ليحرك به عقله، ليتخذ القرار الحكيم قبل ان يفاجأه ملاحقُه، ففي أكثر من خطبة يصف الامام الموتَ وكأنه مخلوق يلاحق الانسان ينتظر الفرصة لينقض عليه كما ينقض الكاسر على فريسته، وحينها لا مجال للفرار.والحكيم من يتأهب لتلك اللحظة.وفي وصيته للحسن: (يا بنيّ! أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت اليه، حتّى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك).
اذاً هو حديث العقل يطلقه أمير المؤمنين لكل ذي لب، يتحدث به من خلال الواقع اليومي الذي يعيشه الانسان، لا لكي يتجمد الانسان في حياته استسلاماً للقدر المحتوم الذي قد يداهمه في أية لحظة، ليتحول الى فرد عاطل لا عطاء له في هذه الحياة، وهو القائل عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً) فتعامل مع كل ما يرتبط بعمارة الأرض في هذه الحياة من منطلق الحياة الأبدية، لكي تمتلك القدرة على هذه العمارة..بل لكي يكون هذا الايمان العميق الواعي سبباً لتهذيب حركة الانسان في الحياة، ولعمارة النشأة الأخرى التي ستتحقق له فيها الأبدية الحقيقية.
الموت وخطاب الروح:
واذا كنا نجد خطاب العقل حول الموت في «نهج البلاغة»، فان صحيفة الامام زين العابدين عليه السلام تأتي لتحرك القلب، لتكتمل صورة التأثير عقلاً وقلباً، وعياً وشعوراً، بكل ما تتضمنه تلك المناجاة من مفاهيم ترسم معالم العلاقة السليمة بين الانسان وبين أجله المحتوم.فكان من دعائه عند ذكر الموت: (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ صَالِحِ الأعْمَالِ عَمَلاً نَسْتَبْطِئُ مَعَهُ الْمَصِيرَ الَيْكَ، وَنحْرِصُ لَهُ عَلَى وَشْكِ اللِّحَاقِ بِكَ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ مَأنَسَنَا الَّذِي نَأنَسُ بِهِ، وَمَألَفَنَا الَّذِي نَشْتَاقُ الَيْهِ، وَحَامَّتَنَا الَّتِي نُحِبُّ الدُّنُوَّ مِنْهَا.فَاذَا أَوْرَدْتَهُ عَلَيْنَا، وَأَنْزَلْتَهُ بِنَا فَأسْعِدْنَا بِهِ زَائِراً، وَآنِسْنَا بِهِ قَادِماً، وَلاَ تُشْقِنَا بِضِيافَتِهِ، وَلا تُخْزِنَا بِزِيارَتِهِ، وَاجْعَلْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ مَغْفِرَتِكَ، وَمِفْتَاحاً مِنْ مَفَاتِيحِ رَحْمَتِكَ.أَمِتْنَا مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ طائِعِينَ غَيْرَ مُسْتَكْرِهِينَ تَائِبينَ غَيْرَ عاصِينَ وَلا مُصِرِّينَ يَا ضَامِنَ جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ، وَمُسْتَصْلِحَ عَمَلِ الْمُفْسِدِينَ).
ان الامام لا يطلب التفاعل مع هذه الكلمات من خلال لحن القراءة، ليكون تأثراً شعورياً فارغاً لا يُصلح ما يفسده الانسان الا القليل، كما لا يريد ان نتفاعل معها تفاعل الوجدانيات المحبوسة في اطار القلب، والمتحولة الى دمعات تنهمر ثم ينتهي كل شيء..بل هي الكلمات التي تخاطب الوجدان، وتشتمل على معالم طريق التغيير الى الأحسن، ليس فقط في العلاقة مع الله، بل مع عباد الله، وفي الآخرة قد يتجاوز الله عن معصية يرتكبها الانسان في حق من حقوق الله، ولكنه لن يتجاوز عن حقوق الناس الا ان يتجاوزا ويعفوا عنه..فحسن العلاقة مع الناس هي جزء من الصورة المتكاملة للانسان كما يحبه الله: (عاملوا الناس معاملة من اذا متم بكوا عليكم وان غبتم حنوا اليكم).