كاشف الغطاء.. القدس.. سوريا.. وميانمار - الشيخ علي حسن

في عام 1931 تم عقد مؤتمر إسلامي عام في مدينة القدس الشريفة، وبادرت لجنة إعداد المؤتمر إلى توجيه دعوة ملحة للمرجع الراحل الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء رحمه الله تعالى للمشاركة في هذا المؤتمر الهام الذي تقرر أن تعقد جلساته الموزعة على أيامه العشرة ابتداء من ليلة 27 رجب .
وكان هدف هذا اللقاء كما ذكر ذلك الحاج أمين الحسيني لصحيفة السياسة القاهرية آنذاك هو: البحث في نشر أساليب التعاون الإسلامي، ونشر الثقافة الإسلامية، والدفاع عن البقاع المشرفة الإسلامية، والعمل لوقاية الدين الإسلامي وصيانة عقائده من شوائب الإلحاد، وتأسيس جامعة إسلامية في بيت المقدس.. إلخ. وكانت وضع فلسطين من أهم محركات هذا الاجتماع، وذلك بهدف مواجهة الخطة الصهيونية والاستعمارية لاحتلال فلسطين، وتهويد القدس.
كاشف الغطاء في القدس:
وجاءت دعوة الشيخ ـ الذي يعد من مراجع الشيعة في النجف الأشرف ـ للمؤتمر لما عُرف عنه من وعي واهتمام بقضايا الأمة الإسلامية وفي توحيد كلمتهم والتقريب بينهم، وهو القائل: (بني الإسلام على دعامتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة). وهكذا كانت له مواقفه البارزة في مواجهة الاستعمار وبفتاواه الجهادية ضد المستعمر، وكانت القضية الفلسطينية والأراضي المقدسة في مقدمة القضايا العربية والإسلامية التي أولاها الشيخ كاشف الغطاء اهتماما بالغا، وكان من المتحمسين لإقامة مؤتمر إسلامي واسع من أجل القضية الفلسطينية، وقد طرح هذه الفكرة في مدرسته العلمية في النجف بحضور علماء من النجف وبغداد، فألقى الشيخ كاشف الغطاء خطابا أوضح فيه هذه الفكرة، وجاء مؤتمر 1931 ترجمة لطموحه رحمه الله.
وفي يوم الافتتاح طُلب منه أن يرتقي المنبر بعد صلاة المغرب لإلقاء خطبة في الحاضرين الذين بلغ عددهم عشرين ألفاً امتدت صفوفهم حتى خارج المسجد الأقصى، وبعد أن أتمها قُدِّم لإمامة صلاة العشاء بالحضور في حدث عظيم قل نظيره.
هذا التاريخ الناصع يكشف عدة أمور، من بينها:
1. عمق القضية الفلسطينية في وجدان الإنسان المسلم بغض النظر عن انتمائه المذهبي، وأنها تمثل القضية المركزية التي يمكن للجميع الالتفاف حولها لتكون المنطلق في حركتهم الوحدوية.
2. أن الأمة بحاجة إلى علماء واعين يحملون همها بجد وإخلاص، ويعملون على الأرض لتحقيق التقارب والتعايش ووحدة الموقف، لا على تمزيق أوصالها وتمكين أعدائها منها، فالتقارب الفكري والوحدة في المواقف يجب أن تأتي على رأس أولويات المسلمين، لا من منطلق ظرفي ومصلحي آني، بل كأساس عقيدي إيماني نابع من القرآن الكريم.
3. أن الاهتمام بصلاة الجماعة المشتركة يمكنها أن تكسر الكثير من الحزاجز النفسية التي تصطنعها أيادي كثيرة في الأمة.
4. أن المسلمين الشيعة هم جزء لا يتجزأ من كيان الأمة الإسلامية، بعربهم وأعاجمهم.. همومهم الكبرى واحدة، وقضاياهم الأساسية واحدة، وآمالهم المستقبلية واحدة.
يوم القدس العالمي:
وتأتي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كل عام ـ بعنوان يوم القدس العالمي الذي أطلقه الإمام الخميني ـ لتكون محطة جديدة من محطات إحياء القضية الفلسطينية، باعتبارها رأس قضايا المسلمين في هذا العصر، ولتبقى هذه القضية حاضرة في وعي المسلم وهو يودع شهر رمضان ويستقبل عيد الفطر، سواء في البعد السياسي للقضية، أو الديني، أو الإنساني المطلق.
ولعل مأساة غزة ـ اليوم ـ تمثل القمة في القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة.. غزة التي عاشت أياماً قليلة من الأمل بتغير أوضاعها على وقع تبدل الوضع في مصر، إلا أن المؤشرات والتحليلات تؤكد أن يد المخابرات الإسرائيلية سارعت إلى العبث بالمشهد الأمني من خلال الاعتداء الإرهابى والآثم الذى تعرض له الجنود المصريين فى رفح من قبل مسلحين عُبِّر عنهم بـ (الجهاديين)! وهي بذلك تحقق أكثر من نتيجة:
1. فهي ستحرج الحكومة المصرية الجديدة وتضطرها إلى اتخاذ قرارات قاسية ضد الفلسطينيين عموماً وضد قطاع غزة خصوصاً، وهذا ما جرى بالفعل من خلال هدم الأنفاق وإغلاق معبر رفح والتشديد في التنقل بين البلدين، مما يقضي على التسهيلات التي قُدِّمت للفلسطينيين مؤخراً، ويجهض أية مشاريع مستقبلية في هذا الإطار.
2. ستُظهر القوات المسلحة المصرية وكأنها عاجزة عن حماية حدودها، وهناك حديث يدور حول نية الكيان الصهيوني لإيجاد شريط حدودي داخل سيناء بعمق 5 ـ 10 كليومترات لتحويلها إلى منطقة عازلة والسماح باختراق الأجواء المصرية وتقليص عدد الجنود المصريين المتواجدين في سيناء، من خلال تغيير بعض بنود اتفاقية كامب ديفيد، وهو المشروع المعد منذ أربع سنوات.
واللافت في الأمر أن الاتهامات في تنفيذ الجريمة تتوجه إلى بعض المجموعات (الجهادية) التي تتخذ من سيناء وقطاع غزة مقراً لها، وهو ما يؤكد الاختراق المخابراتي الصهيوني لها، إن لم تكن صنيعتها من الأساس، وقد قدمت في أكثر من مناسبة خدمات (جليلة) لهذا العدو خلال السنوات الماضية.
سوريا وميانمار:
وأما العيد في سوريا وميانمار فيأتي هذا العام مصبوغاً بلون الدم، في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعبان في ظرفين مختلفين.. فسوريا دخلت في نفق مظلم يهددها بحرب داخلية طويلة تدمر الكثير مما تبقى من مقوماتها، وتستحكم من خلالها حالة التمزيق والعداء الطائفي، لا فيها فحسب، بل على مستوى المنطقة ولسنوات قادمة، هذا إن لم تجر معها دولاً أخرى كلبنان مثلاً للوقوع في حروب أو فتن مستمرة أو متقطعة.
أما قضية المسلمين في ميانمار والذين يشكلون 4% من مجموع السكان، فهي ليست بالجديدة. فمنذ العام 1962 عقب الانقلاب العسكري، مارست الحكومة بمليشياتها عمليات طرد وتهجير ومجازر جماعية متكررة.. ففي ذلك العام طردت أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلادش. وفي العام 1978، طردت أكثر من نصف مليون مسلم، مات منهم قرابة 40.000 حسب إحصائيّة وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وفي العام 1988، تم طرد أكثر من 150.000 مسلم. وفي العام 1991 تم طرد قرابة النصف مليون.
يأتي هذا كله في ظل عدم الاعتراف بحقوق المواطنة لهم، فهم ممنوعون من دخول ولايات معينة في البلاد، ومحرومون من تملك العقارات وممارسة أعمال التجارة وتقلد الوظائف في الجيش والهيئات الحكوميَّة، ممع فرض شّروط قاسية عليهم في الإجراءات المتعلّقة بالأحوال الشخصية، كالزواج وتسجيل الأبناء، كما تم حرمانهم من حقّ التّصويت في الانتخابات البرلمانيّة، وتأسيس المنظّمات وممارسة النشاطات السياسيّة، فضلاً عن استخراج جوازات سفر.
ما تتعرّض له الأقلية المسلمة في ميانمار والذي يقدّر البعض عدد المقتولين في مجازرها منذ شهر يونيو بـ 70 ألف مسلم، صُنّف من قبل منظمات حقوق الإنسان جرائم حرب قائمة على التطهير العرقي، حتى اعتُبرت (تصفية القرن العرقية)، وقد ووصفت مراسلة صحيفة (نيويورك تايمز) في بنغلادش الأحداث بأنها ليست عنفاً طائفياً فحسب، بل (تطهير عرقي تدعمه الدولة)، وأنَّ دول العالم لا تضغط على ميانمار لوقفه، مشيرةً إلى أنّه حتى زعيمة المعارضة والمعروفة بـ(أيقونة الديموقراطية في ميانمار) والفائزة بجائز نوبل للسلام العام 1991، أونج سان سوتشي، التزمت الصمت على الرغم من مناشدة المسلمين لها بمساعدتهم في إنهاء معاناتهم.
فلنغير ما بأنفسنا:
وهكذا يأتي عيد آخر والعالم الإسلامي بملياره والنصف مليار لا يزال في موقع الضعف الداخلي من جهة، والضعف أمام المستكبرين من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل مقدراته السياسية في دائرة الخضوع والسيطرة لأجندات معينة داخلية وخارجية، ومقدراته الاقتصادية تتوجه في غالبيتها لغير مصلحة الشعوب والتنمية، وليبقى مَن هم تحت الاحتلال يعانون منه، وكلما جاءت بارقة أمل سرعان ما تُخمَد بفتنة هنا أو مؤامرة هناك. ويتوَّج ذلك كله بتعميق الهوة الطائفية من خلال عمل أطراف عديدة على خلق الفتن التي تربك الواقع كله، لتكون الصورة هي انشغال المظلومين بالمظلومين، بدلاً من انشغال الظالمين بالظالمين.
إن ما نبتهل به إلى الله ونحن نستقبل عيد الفطر لهذا العام أن يعين المسلمين ليأخذوا بأسباب القوة والعزة والكرامة والحرية، ليكون عيداً يرتفع فيه الواقع الإسلامي إلى المستوى الأعلى الذي يريد الله له أن يكون خير أمةٍ أخرجت للناس، لأنه لا عيد مع الضعف ومع الخضوع والمهانة والسقوط تحت تأثير قوة الآخرين، مع التأكيد على قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11.