خطبة الجمعة 15 رمضان 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الإمام الحسن والمجتمع الكوفي


ـ بعد أن تمت مبايعة الإمام الحسن(ع) من قبل الناس على أثر استشهاد أبيه أمير المؤمنين علي(ع) خطب قائلا: (نحن حزب الله الغالبون، وعترةُ رسولِه الأقربون، وأهلُ بيته الطيبون الطاهرون، وأحدُ الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله في أمَّته، والثاني كتابُ الله، فيه تفصيل كل شئ ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوَّل علينا في تفسيره، لا نتظنَّى تأويلَه، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإنَّ طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله عزوجل ورسولِه مقرونة، قال الله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ). وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان، فإنه لكم عدو مبين فتكونوا أولياءه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) فتُلقون إلى الرماح وِزرا ـ آثمين ـ وإلى السيوف جَزْرا ـ مذبوحين ـ وللعَمَد حُطُما، وللسهام غَرَضا، ثم (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)).
ـ من الواضح أن الإمام شخّص أهم مشكلة كان يعاني منها ذلك المجتمع الكوفي الذي وجّه إليه خطابَه، حيث ركز على مسألة الطاعة له، ومن منطلق قرآني عقدي.
ـ فعلى الرغم من حالة التشيع والنصرة التي كانت تغلب على ذلك المجتمع، إلا أنه كان في مجمله تشيعاً سياسياً، فارغاً من المضمون العقدي، الأمر الذي أدى إلى حالات عديدة من التمرد أو النكوص في الاستجابة لأوامر الحاكم، سواء أكان هو أمير المؤمنين(ع) أو الإمام المجتبى(ع).
ـ لاحظ هذه الكلمات من الإمام علي(ع): (أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المتشتتة، الشاهدةُ أبدانُهم ، والغائبةُ عنهم عقولُهم، أظأرُكم ـ أُعطِفكم ـ على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة ـ صوت ـ الأسد ! هيهات أن أُطلِعَ بكم سرارَ العدل ـ أي تلمع بكم لوامع العدل، ويبرق وجهه ـ أو أقيم اعوجاجَ الحق ـ أي وأنتم على هذه الصورة ـ . اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ، ولا التماس شئ من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (ص) بالصلاة، وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته. ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة، فيُهلك الأمة).
ـ هذه هي السياسة في مفهوم الإمام(ع)، وهذا هو معناها اللغوي، فعندما تعود إلى معجم لغوي ستجد أن تعريف السياسة: (القيام على الشئ بما يصلحه، و السياسة: فعل السائس، و الولي يسوس رعيته).
ـ ولكن السياسة ارتبطت في الذهنية العامة بالخديعة والغش والمصلحية والكذب وغير ذلك، ولما لم يجدوا ذلك عند علي(ع)، كما لن يجدوه عند الحسن(ع)، لم ينسجم كثيرون معهما في سياستهما.
ـ كيف ينسجمون مع علي(ع) وهو القائل: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسبلها جلب شعيرة ما فعلته).
ـ هذه هي صورة السياسة عند علي(ع)، وهذا ما لم يتحمله كثيرون. قال ابن أبي الحديد: (وأما الرأي والتدبير: فكان من أسد الناس رأيا، وأصحهم تدبيرا.. وإنما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. وقد قال عليه السلام: لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء ـ يقصد من الأمويين والعباسيين ـ كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب).
ـ هذا جانب من صورة الوضع الذي ورثه الإمام الحسن(ع) عن أبيه: فالسّياسة التي علّمهم الإسلام أنها إصلاح حال الناس أصبحت مجرَّد شعاراتٍ ابتعدت عن أن تكون أداةً لتأكيد الحقِّ والعدل في الحياة، وأرادوا لها أن تتحول إلى أداة طيعة بأيديهم يستخدمونها وفق أهوائهم، لا دخولاً في طاعةِ مَن أمر الله بطاعته، في كتاب الإمامة والسياسة: (لما قُتل علي بن أبي طالب، ثار الناس إلى الحسن بن علي بالبيعة؛ فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت؛ فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم، وقَبَض هو يده. فأتوا الحسين فقالوا له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا. قال: فانصرفوا إلى الحسن، فلم يجدوا بُداً من بيعته، على ما شرط عليهم).
ـ مع هكذا نمط من الناس تعامل الحسن(ع)، ويبدو أن هذا الوضع استدعى من الإمام أن يتحدث إليهم
بشكل واضح بعد مبايعته في أهم نقطة من نقاط الخلل الذي كان يعاني منه ذلك المجتمع، وهو ما أشار النبي(ص) إليه ضمنياً بقوله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) فتوليهما يجب أن يكون مطلقاً غير متأطر بحدود التوافق مع الرأي الشخصي أو المصالح الضيقة.
ـ وتجلى الخلل بشكل كبير بعد ذلك أثناء الأحداث التي أدت في النهاية إلى الرضوخ إلى الصلح، وهو ما
لم يتحمله بعض شيعته، وهم ينظرون إلى جانب محدود من الصورة المأساوية التي كانت جلية بكلها عند الإمام الحسن(ع).
ـ ثم جاءت الخطبة الوداعية من الإمام الحسن أمام جموع أهل الكوفة قبل أن يتوجه إلى المدينة لتؤكد ذات المضمون وتشخص ذات الخلل من جديد: (نحن أَوْلى الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبيه، ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قَبَض اللهُ نبيَّه، فالله بيننا وبين مَن ظلمنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفئ، ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول الله، وأقسِم بالله لو أن الناس بايعوا أبي، حين فارقهم رسول لأعطتهم السماء قِطرها، والأرضَ بركتَها).
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا مولاي يا حسن بن علي، اَيُّهَا الْهادِي الْمَهْديُّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الطّاهِرُ الزَّكِيُّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الشَّهيدُ الصِّدّيقُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا مُحَمَّد الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.