خطبة الجمعة 15 رمضان 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى : خير من ألف شهر


ـ هي ليلة القدر، إما بمعنى الشَّرف والمنـزلة، بلحاظ أنها خير من ألف شهر، وإما بمعنى التّقدير بلحاظ قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدّخان : 3-4]. فهي اللّيلة الّتي ينظّم الله فيها للنّاس أوضاعهم وفي كلّ أمورهم الخاصَّة والعامَّة.
ـ ولكن لماذا يربط الله تعالى تلك التقديرات بزمن محدد؟ ولماذا يجعل للملائكة دوراً فيها؟ ونحن نؤمن أن الله سبحانه هو المدبّر لهذا الكون، وهو القادر على أن يقول للشّيء كن فيكون؟
ـ إننا عندما نعود إلى القرآن الكريم نجد أن حكمته اقتضت أن يجعل إرادته في نطاق الزَّمن، ولذلك خلق الأرض والسَّماء في ستّة أيّام، وهو قادر على أن يخلقها في لحظة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى هذه اللّيلة، فلربما اقتضت حكمته أن يعطي للإنسان إمكانية التدخل في صناعة شئ من قدره، إذا أدرك ما لهذه الليلة من عظمة، وترجم ذلك إلى عمل في تلك السويعات القليلة، لتتحول إلى ليلة تدخل في عمق الوجود الإنسانيّ، فيما يتعلق بعمره ورزقه وإنجازاته ومصيره الأخروي وغير ذلك.
ـ وقد شاء الله تعالى أن تجري الأمور بالأسباب، وجعل للملائكة دوراً في تنظيم هذا الوجود: (عبادٌ مُكْرَمُون، لا يَسْبقُونَهُ بالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون)[الأنبياء: 26-27].
ـ إننا وإن كنا لا نرى الملائكة ولا نشعر بحركتهم، ولكنَّهم يعيشون في أجوائنا عندما نجتمع لنعبد الله، ونصلِّي له، ونبتهل إليه، ونخشع بين يديه، وهم يباركوننا.
ـ وقد حدَّث الله عن الملائكة أنَّهم يستغفرون للّذين آمنوا، ويتفاعلون مع حركتهم الإيجابية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصّلت: 30]، وليلة القدر من تجليات ذلك التفاعل الغيبي.
ـ إن كون هذه الليلة خيراً من ألف شهر لربما يحمل رسالة مفادها أن حجم الزّمن لا يقاس بطبيعة ساعاته، بل بما يختزن من تميز، وما يُقام فيه من أعمال، ومن مواقف وطاعات. إنّ الإنسان يستطيع أن يجعل من يومه شهراً، ومن شهره سنةً، لأنّ المسألة هي في النّوعيّة وليس في الكميّة.
إنها ليلة السّلام التي تنزل فيها الملائكة بالهدايا الربانية عطاءً غيرَ محدود، وهي الليلة الّتي يُفرغ الإنسان فيها قلبه من كلّ حقدٍ وعداوة وبغضاء، وهي ليلة السّلام الّتي نجلس فيها بين يدي الله، لنفتح قلوبنا له، لنفرغها من كلّ ما يسخطه سبحانه، ليجعل كلٌّ منا قلبَه قلباً سليماً، لأن الله يقول: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشّعراء: 88 - 89]، سليمٍ من الشّرك، سليمٍ من الحقد والعداوة والبغضاء. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإعطاء هذه الليلة حقها، وأن لا ننشغل عنها بما يضيع علينا بركاتِ ليلةٍ هي خيرٌ عند الله من العمر كلِّه.. ادعو الله لإخوانكم، لمن فقدتم من أهليكم وأحبابكم، ادعو الله لكي ينصر الحق ويُزهق الباطل، ادعو الله لكي يفرّج عن المكروبين في مشارق الأرض ومغاربها، ادعو الله لإمام زمانكم ولتعجيل الفرج. اللّهمّ أدِّ عنّا حقّ ما مضى من شهر رمضان، واغفر لنا تقصيرنا فيه، واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين يا أرحم الرّاحمين.