خطبة الجمعة 8 رمضان 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى : شهر الرحمة


ـ الخطبة المشهورة للنبي الأكرم(ص) في استقبال شهر رمضان والمروية عن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين علي (ع)، تتضمن صورة واضحة عن ارتباط شهر رمضان والصيامِ فيه بالرحمة، على بعدين: بُعد علاقة الله بعباده، وبعد العلاقات الإنسانية، (أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة) هذا هو العنوان العام لطبيعة هذه العلاقة في هذا الشهر، ثم يقدم النبي(ص) نماذج من هذه الرحمة الإلهية نذكر وفق ترتيب ذكرها ضمن البعدين:
البعد الأول، علاقة الله بعباده الصائمين:
ـ النموذج الأول: (ونومكم فيه عبادة) فالإنسان عندما يكون متعباً في هذا الشهر فينام، فإن الثواب الذي يُفترض أن يكون فقط للمستيقظ المتعبد، لن يفوته ـ ولو نسبياً ـ حال نومه. وهذا من خصوصيات هذا الشهر، لأن الصائم فيه في ضيافة الله (هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله) ، والمضيف كريم بحق ضيوفه، رحيم بضعفهم، ويقدّر طاقاتهم المحدودة، فالحقيقة أنكم: (جُعلتم فيه من أهل كرامة الله).
ـ النموذج الثاني: (وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل السّاعات، ينظر الله عزَّ وجلَّ فيها بالرَّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيّهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه) رحمة مرتبط بالتوبة من جهة، وبالدعاء من جهة أخرى، سواء أكان بصورة المناجاة والخطاب الخفي، أم كان بصورة النداء والجهر، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) هذا وعد إلهي قد يؤجل الإنسان تحققه من خلال بعض ممارساته السلبية، و قد يضع في طريقه العراقيل بسبب الذنوب، وقد لا يتحقق منه التوجه والرغبة الصادقة بسبب الانشغال بأمور تفقده التركيز، كما نجده في هذا المقطع من دعاء أبي حمزة الثمالي: (اَللّـهُمَّ! اِنّي كُلَّما قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأتُ وَتَعَبَّأتُ وَقُمْتُ لِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، اَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاساً اِذا اَنَا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَني مُناجاتِكَ اِذا اَنَا ناجَيْتُ. مالي كُلَّما قُلْتُ قَدْ صَلَحَتْ سَريرَتي، وَقَرُبَ مِنْ مَجالِسِ التَّوّابينَ مَجْلِسي، عَرَضَتْ لي بَلِيَّةٌ اَزالَتْ قَدَمي، وَحالَتْ بَيْني وَبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟! سَيِّدي لَعَلَّكَ عَنْ بابِكَ طَرَدْتَني، وَعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ؛ فَاَقْصَيْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني مُعْرِضاً عَنْكَ؛ فَقَلَيْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَني في مَقامِ الْكاذِبينَ؛ فَرَفَضْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني غَيْرَ شاكِر لِنَعْمائِكَ؛ فَحَرَمْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَني مِنْ مَجالِسِ الْعُلَماءِ؛ فَخَذَلْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِى الْغافِلينَ؛ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ؛ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ اَنْ تَسْمَعَ دُعائي؛ فَباعَدْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمي وَجَريرَتي؛ كافَيْتَني. اَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنْكَ؛ جازَيْتَني). قد تكون هذه هي صورة الإنسان في الأوضاع العادية. إلا أن شهر رمضان بأجوائه وببركاته ومن خلال كرامة الصيام والصائم عند الله فإن كثيراً من تلك المعوّقات تزول وتتبخر لتنفتح آفاق الرحمة الإلهية وكأن السماء تنشق ليصعد إليه الكلم الطيب، لتصعد إليه المناجاة، وليرتفع إليه الدعاء، وليقبل الله توبة عباده، لاسيما في أوقات الصلوات المفروضة، كما جاء في الخطبة النبوية.
ـ إذاً مع كل هذه الامتيازات الاستثنائية والعوامل المساعدة، فإنه بحسب تعبير الخطبة النبوية: (الشقيَّ من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم) فلا تفوّتوا هذه الفرص العظيمة، خمس صلوات يومية في 30 يوماً، أي مائة وخمسون فرصة متميزة في هذا الشهر، ناهيك عن ليلة القدر وامتيازاتها.
ـ النموذج الثالث: (أيُّها الناس! إنَّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة، فسلوا ربّكم أن لايغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لايفتحها عليكم، والشيّاطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لايسلّطها عليكم) فمن رحمته أن هيّأ كل السبل المعينة لعبده كي يحقق الصورة المُثلى للصيام في هذا الشهر الكريم، ويبقى على العبد أن يُحسن استغلال هذه العوامل والامتيازات، وأن لا يستغرق فيما يضيع عليه الفرص المتوالية بالتكاسل والإهمال والانشغال بالملهّيات، ليخرج صفر اليدين إلا من القليل بسوء اختيارٍ منه.
ـ البعد الثاني، الرحمة في العلاقات الإنسانية:
ـ وهو ليس بالبعد المنفصل عن البعد الأول، ولكنه هنا ينتظر من البعد عملاً ما يدل على الرحمة في العلاقات الإنسانية لتأتي الرحمة الإلهية كجائزة ثمينة لا تقدَّر، ومن نماذج ذلك:
ـ النموذج الأول: (وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم.... و تحنّنوا على أيتام النّاس يُـتحنّن على أيتامكم) وهذا بُعد آخر من أبعاد العبادة عموماً، ومنه صيام شهر رمضان، وهو بُعد اجتماعي تنعكس فيه الجوانب التربوية للعبادة، بتزكية النفس وتطهيرها من الأنانية والتعلق بالدنيا وحب المال والعجُب والتعاظم على خلق الله وتحقير المحرومين، لتحل محلها قيم التعاون وقضاء حوائج المحتاجين والتفاعل مع آلامهم وآمالهم والرحمة والتواضع والاحترام وتقدير إنسانيتهم.
ـ وهكذا يفترض بالعبادة أن تكون دائماً، عبادة مربّية مزكية مطهّرة من الصفات السلبية التي يتلبّس بها الإنسان، عبادة ذات بعدين جسدي وروحي، فالجسد هو نفس العمل، والروح هو أثر العمل وانعكاساته الإيمانية والروحية والفكرية والأخلاقية، كما قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ـ النموذج الثاني: (أيّها النّاس، من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه. قيل: يا رسول الله، و ليس كلّنا يقدر على ذلك! فقال عليه السّلام: اتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، اتّقوا النار ولو بشربة من ماء) وهي إشارة مرتبطة بسابقتها ولكننها تتضمن التفاتة أخرى تخص الرحمة، وهي قبول النسبية في العطاء بلحاظ النسبية في الإمكانات، فهذا الذي لا يملك سوى القليل من الماء يمكنه أيضاً أن يدخل في سجل الباذلين للعطاء الذين وعدهم الله بثواب عظيم، كثواب من حرر عبداً، ومغفرة واسعة إذ يخرج من عطائه كيوم ولدته أمه، تماماً كذاك الذي أنفق المئات أو الآلاف من الدنانير بحسب إمكاناته المادية بما أنعم الله عليه، فكلٌّ يُعطي بحسب إمكاناته، فالمهم أن يمتلك الإنسان هذه الروحية، وأن يحقق هذا البذل.. لا بمعنى أن يكتفي بالقليل كشق تمرة وهو القادر على أن يبذل الكثير، بل بمعنى مراعاة النسبة والتناسب.. وهذا كله من رحمة الله سبحانه المتجلية في هذا الشهر.
ـ النموذج الثالث: (ومن خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه، خفّف الله عليه حسابه) واليوم وإن ألغي نظام الرق بحمد الله إلا أن الخدم الذين يعملون في المنازل يتحملون مسؤوليات كثيرة مما كان يتحملها الرقيق، فينطبق عليهم ما في العبارة السابقة بنحو ما.
ـ وبين أيدينا نص رواه السيد ابن طاوس في كتابه الاقبال بسنده عن الصادق (ع): (كان علي بن الحسين (ع) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة ـ كضرب تأديبي على المخالفات التي يرتكبونها ـ وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب ثم قال يا فلان فعلتَ كذا وكذا ولم أؤدبك أتذكر ذلك؟ فيقول بلى يا ابن رسول الله. حتى يأتي على آخرهم ويقررهم جميعا ثم يقوم وسطهم ويقول ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كلما عملت كما أحصيتَ علينا كلما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتجد كل ما عملت لديه حاضرا كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك ويصفح، فإنه يقول وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم (ثم يبدأ الإمام يلقنهم ما يقولون وهو يبكي في وسطهم ويظهر الاعتذار إلى الله وإليهم ثم يعتق رقابهم ويعطيهم في عيد الفطر من المال ما يغنيهم عما في أيدي الناس) وفي الخبر أنه ما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان قرابة العشرين عبداً وأمة. هكذا تنعكس الرحمة في سلوك الصائم في رمضان بصورة عملية ومتوافقة مع الأدب النبوي.
ـ النموذج الرابع: (ومن وصل فيه رَحِمَه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رَحِمَه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه) لأهمية هذه العلاقة الإنسانية، قال تعالى: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) وقال سبحانه: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وقال: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) وقال: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن الأرحام وذوي القربى من حيث الرعاية والمساعدة والعطاء والبر والمعروف، وكلها تؤكد على أهمية هذه العلاقة الإنسانية التي يريد الله سبحانه أن ينميها ويقوّيها، ففيها عزة للفرد، وقوة للمجتمع المؤمن، ونزول لبركات السماء.
ـ ويأتي التأكيد ليشمل حتى أولئك الذين يعمدون إلى قطع صلتهم بك، فمسؤوليتك أن تصلهم ما استطعت (صل من قطعك) لترفع بذلك أسباب القطيعة والشحناء، ولترتفع بذلك قيمتك عند الله، فصلتك هذه التي قد لا تتعدى مكالمة هاتفية لدقيقتين، أو زيارة قد لا تكلفك أكثر من نصف ساعة، أو بذل شئ من ماء وجهك في موقع كريم يحبه الله ويعظّمه ويقدّره المجتمع ويجلّه، أو إنفاق مال سرعان ما يعوّضك الله عنه خيراً وزيادة، هذه الصلاة يبدلها الله برحمة واسعة في الآخرة يتمناها الجميع في ذلك اليوم العظيم الذي يبحث فيه الإنسان عن أي سبب يتخلص به من العذاب وينال به رضوان ربه.
إن الحياة وفق النظام القائم في هذا الزمان والذي تغلب فيه الماديات والنظرة الضيقة إلى الدنيا والابتعاد عن الله والانغماس في الذات وحب النفس كلها من أسباب سلب الرحمة من القلب أو إضعاف تأثيرها، والصيام في شهر رمضان تمثل الفرصة الذهبية في السنة التي تمكّن الإنسان من تعديل هذا الخلل ولو بصورة مؤقتة، وهي فرصة لا يعلم الإنسان إن كان سيوفّق لمثيلتها في عام مقبل، فرصة عنوانها الرحمة، وعطاؤها الكرم، وخاتمتها التوبة والمغفرة من الله الرحمن الرحيم الكريم التواب الغفور.