توأم الصدق

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام كما في نهج البلاغة في الخطبة 41: (إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ) فالوفاء صدق عملي، والصدق وفاء مع الله، ووفاء للعلاقات الإنسانية (وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً) وسيلة للحماية (أوقَى مِنْهُ) للحماية من انهيار الثقة بين الناس وبالتالي انهيار الحياة في مساراتها الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية ، وأوقى منه للحماية من ترتب العقاب الأخروي (وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ) وحقيقة الآخرة وكيف هو الحساب الدقيق والعقاب الأليم (وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَان اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً) فطنة وذكاء (وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ) والشطارة والفهلوة (مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ) الذين يحسنون تدبّر الأمور ويمتلكون البصيرة (وَجْهَ الْحِيلَةِ) ويعرفون كيف يوظّفونها لمصلحتهم ولكنهم يرون أيضاً قبلها(وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ) ولا تقوى له.
معاناة شخصية:
في ضمن ما تحدث به الإمام علي عليه السلام في هذه الكلمة التي قرأ فيها الواقع، وشخّص العلة، وقدّم الحل، نجده عليه السلام يشير إلى خطر التلاعب في المفاهيم وقلب الحقائق من أجل تحقيق الأهداف الشخصية. وهي قضية عانى منها الإمام نفسُه أشد المعاناة حين تعامل مع أطراف لا تعرف التقوى، وتوظف كل شئ لتحقيق مصالحها ولو بالتعدي على كافة الحدود الشرعية.
فتارة يغدر الإنسان وهو يعترف أن هذا غدر وأنه محرم.. ويخون المواثيق، وهو يعترف بما فعل وقبحه.. ويكذب ويعترف أنه كذب ومن الكبائر.. وتارة أخرى تجده يأتي بكل هذه القبائح ويُلبسها ثوب الشرعية ويحاول أن يزخرفها ويزّينها ويعطيها مسميات معينة ليبرر للآخرين فعلته.
الأشد خطراً:
ومن الواضح أن الصورة الثانية أشد خطراً من الأولى، لأن فيها تمويهاً وتلاعباً وقلباً للحقائق وتحويلاً للحلال البيّن والحرام البيّن إلى شئ هلامي متشابه غير محكم يعطي الفرصة لذوي النفوس المريضة للتلاعب كيفما شاءوا وفق ما تمليه مصالحهم. تماماً كما حذّر القرآن من الركون إلى الآيات المتشابهات: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) آل عمران:7. وهذا ما أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله: (وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَان اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ!).
فهي بحسبهم شطارة وفهلوة وتكيّف مع الواقع وحيلة شرعية ـ وحتى عناوين ثانوية بزعمهم ـ وهي ليست كذلك، بل لا تعدو أن تكون غدراً أو خيانةً أو كذباً أو تدليساً أو غير ذلك من العناوين القبيحة. فما الذي منع الإمام من أن يسلك نفس مسلكهم؟ قال: لأن (دُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا)، فهي ليست مسألة عجز، بل تقوى ومخافة الله وجنة ووقاية من عذابه.
إن من يريد أن يكون مع علي عليه السلام لن يكون من الذين لا يتورعون عن اقتحام المحارم لتحقيق مصالحهم، ولن يكون من الذين يوظفون الدين لمصالحهم، ولن يكون من الذين يتلاعبون بالمفاهيم ويقلبون الحقائق لإرضاء أهوائهم، بل سيكون سائراً في نهج علي فكراً وقولاً وعملاً.. نهج الاستقامة والصدق والوفاء.