خطبة الجمعة 1 رمضان 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : لماذا ضيقنا دائرة التقوى؟


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:183.
ـ نستقبل شهر رمضان الذي اعتبر الله أن الصيام فيه من عوامل تحقق التقوى، لو أحسن الانسان الاستفادة من هذا الشهر، لاسيما بلحاظ كل العوامل المساعدة الاستثانئية ـ مما تناولناه في خطبة النبي ـ والتي يقدمها الله لعباده في هذا الشهر، ويُفترض بها أن تساعد المسلم على تحقيق هذه الغاية المهمة.
ـ وعلى الرغم من سعة مفهوم التقوى ودلالاته، إلا أننا عادةً ما نعمل على تضييقه، إما رعايةً لمصالح شخصية تستدعي تصويره بما نشاء، وإما قصوراً في فهم حقيقة التقوى.
ـ فعندما نأتي إلى آية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)البقرة:278 أو آية (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) المائدة:96، أو ما روي عن النبي(ص) أنه قال: (اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ) تجدُ أحدَنا يتوقف ملياً في التفكير في كيفية تفعيل التقوى في هذه العناوين.
ـ وفي المقابل عندما نأتي إلى مثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تجد سوء الظن حاضراً بقوة في تفسير الأمور، فالأصل عندنا سوءُ نيةِ الآخر. بينما يفترض أن يكون الأصل هو البناءُ على حسن النية. فعلى الرغم من أن بعض الظن إثم إلا أنه يجب علينا أن نجتنب
كثيراً من سوء الظن. هذا جزء من فاعلية التقوى، ومنه تقوى الصيام.
ـ وهكذا عندما نأتي إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق:1-2 تغيب التقوى مجدداً، فتجدُ كلَّ شئٍ، من سُبابٍ وبهتانٍ ومنعِ حقوق وهتكِ حرمات وغيبة وفتن.. إلا التقوى، لأن التقوى عند البعض محبوسة في دائرة النجاسة والطهارة ومخارج الحروف وما شابه.
ـ وهكذا عندما نأتي إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات:10، نجد أن السعي للإصلاح جزء من التقوى. فهل فعلاً ننظر إلى هذا الأمر من هذه الزاوية؟ أم نعتبره أمراً كمالياً يعتمد على المزاج الشخصي؟
ـ وعندما تتحدث الآية عن المؤمنين، هل تقصد خصوص أتباع المذهب الذي أومن به، أم كلَّ مسلم، بغض النظر عن الانتماء المذهبي؟ لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام واضحاً صريحاً دقيقاً حين قال للأشتر: (الناس اثنان إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق). فكل مسلم هو أخوك في الدين.
ـ ثم هل هذا الاصلاح يخص التخاصمات في الدوائر المحدودة كخصومة بين زوجين أو صديقين؟ أليس السعي للتقريب بين المذاهب ورفع أسباب الخصومات بين أتباعها جزء رئيسي من هذا الإصلاح، إن لم يكن من أهمه؟ فما بال الكثيرين منا اليوم لا همّ لهم إلا البحث عن موارد الخصومة والشقاق وبث ذلك؟ لماذا نتحول إلى أداة بيد الصهاينة والاستكبار وبيد أعدائنا؟ لماذا نذبح الإسلام كل يوم مرات ومرات باسم التعصب المذهبي؟
ـ هل إثارة النزاع من القول السديد؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) الأحزاب:70، فعندما لا يكون القولُ سديداً، فلا تقوى إذاً.
ـ لماذا لا يتوقف الشيعي مرات ومرات أمام هذه الآية قبل أن ينشر مقطعَ فيديو أو نصاً ما، يعمّق فيه الكراهية بين المسلمين بمقدار ما يقف أمام حديث أثر عدم التحرز من البول؟
ـ ولماذا لا يتوقف السني مرات ومرات أمام هذه الآية قبل أن يشتمَ الشيعة ويقذفَهم في أعراضِهم أو ينشر كلماتٍ يُخرج بها إخوانَه من الدين، بمقدار ما يتوقف أمام آية الربا؟
ـ لاشك أنكم اطلعتم قبل يومين على الاقتراح الذي قدمه السيد حسن نصرالله بخصوص ميثاق الشرف بين السنة والشيعة، بأن يمنع علماءُ كلِّ مذهب أيَّ صوت من أتباعه يرتفع ليمزق الصف، ونحن في شهرٍ
يُفترض به أن يحقق التقوى، فهل من مجيب؟ إن القلب ليتمزق ونحن نشاهد كل هذا العدد الكبير من العلماء الصامتين عندنا وعند إخواننا من أهل السنة فضلاً عن أولئك الذين يصبون الزيت على النار.
ـ فأين أنتم يا علماء الإسلام من كل هذا الانجراف نحو هاويةِ فتنةٍ عمياء يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير؟ ألم تُلقَ عليكم الحجة إلى الآن؟ ونعوذ بالله أن نصل الى ما وصفته الآية (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) النمل:80.
ـ أذكّركم أخيراً بما قاله الصحفي الأمريكي المطّلع سيمور هيرش في سنة 2007 عن العمل على قدم وساق من أجل إشعال نار الحرب الباردة بين السنة والشيعة، وهذا الوصف ورد على لسان مارتن إنديك السفير الأمريكي السابق لدى الكيان الصهيوني، وذلك من خلال التعبئة الإعلامية حول فكرة الخطر (الشيعي)، والذي بتعبير الأستاذ فهمي هويدي تمثل تارة فيما سمي بإقامة (هلال شيعي)، وتارة بالتخويف من التوسع الشيعي في بلاد السنة، وتارة ثالثة بإبراز إساءاتٍ لصحابة الرسول ولأم المؤمنين عائشة. وكيف وظفت الكتب والقنوات الفضائية المأجورة والتجمعات المتعصبة لتحقيق ذلك كله.
ـ إن كان شهر رمضان هو شهر التقوى، فمن أعظم التقوى الإصلاح بين المسلمين، وإن من أعظم التقوى حسن الظن ببعضنا البعض، وإن من أعظم التقوى القول السديد. اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
ـ اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم اجعل التقوى زادهم والايمان والحكمة في قلوبهم وأوزعهم أن يشكروا نعمتك التي أنعمت عليهم، وأن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، إله الحق وخالق الخلق، (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون).