المرجع فضل الله : شجاعة الفكر والقول والعمل - الشيخ علي حسن

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) سبأ:46، تدعو الآية لامتلاك الإنسان من الإرادة والشجاعة ما يدفعه للابتعاد عن العقل الجمعي الذي ينساق وراءه دون تفكير في مدى صحة متبنياته فيتبعه ـ غالباً ـ اتباع الأعمى ويردد مقولاته دون وعي، وكما جاء في بعض النصوص العلمية: (العقل الجمعي يمانع بطبيعته عملية التغيير بعكس العقل الفردي، إذ يميل الإنسان بمفرده لحساب العواقب، وهذا الحساب هو ما يميز العقلانية عن اللا عقلانية، ولكن إذا انجرف العقل الفردي لشروط العقل الجمعي فحينئذ سيصاب حتمياً بمعظم آفاته كالانفعال والغضب). بالطبع فإن هذا لا يعني أن يكون الإنسان متمرداً على القرارات الجماعية، فليس هذا هو المراد من العقل الجمعي، بل المقصود أن لا يقع الإنسان تحت تأثير آراء الآخرين بالمستوى الذي يلغي فيها عقله، ويجمّد تفكيره، ولا يحاول أن يكوّن لنفسه رأياً وفق الأسس السليمة.
فضل الله والعقل الفردي:
وهذه الميزة من الأمور التي تجلّت في شخصية المرجع والمفكر الراحل السيد محمد حسين فضل الله ونحن نعيش الذكرى السنوية الثانية لرحيله. صحيح أن شجاعته هذه وابتعاده عن العقل الجمعي جعله عُرضة لكثير من النقد والتجريح والإساءة البالغة التي لم تكف عنه حتى بعد أن غادر هذه الدنيا الفانية إلى جوار ربه، إلا أنها قدّمت منهجاً علمياً رصيناً، وفتحت آفاقاً رحبة في فهم الدين وعلاقته بالحياة، وحمّلتنا مسؤولية أن نفكر قبل أن نقول نعم أو لا، وهو الذي كان دائماً يكرر: (لا تعيروا عقولكم للآخرين ، ولا تسمحوا لأحد بأن يملأ عقولكم).
في عام 2003 حاورته جريدة الرأي العام حول فتواه في الاستنساخ وسأله الصحفي إن كان قد خاف أو تردد في طرح رأيه في الأمر فقال: (لـم يكن عندي خوفٌ من المعارضة للرأي، لأنَّني أعتقد أنَّ على الإنسان أن يقول كلمته بغضّ النظر عن ردود الفعل، طالما هو يؤمن بأنَّ كلمته تمثِّل الحقيقة.. وإذا كانت هناك أيّة وجهة نظر أخرى، فأنا مستعد لأن أدخل في الحوار معها. فإذا اكتشفت الخطأ فإنَّ لديّ الشجاعة للتراجع عن رأيي).
إنها في الواقع شجاعة في إطلاق الفتوى، وشجاعة في الحوار، وشجاعة في التراجع إن قام الدليل على وقوع الخطأ.. شجاعة ترجمها إلى الإفتاء بما قام عليه الدليل ولو خالف فتاوى الفقهاء على مدى قرون.. وشجاعة قلل من خلالها كثيراً من (الاحتياط الوجوبي) غير المبرَّر الذي يعقّد حياة المكلَّفين.. وشجاعة دفعته للأخذ بالمعطيات العلمية اليقينية في تشخيص الموضوعات ولم يكتفِ بفرض (إن كان كذا فكذا، وإن لم يكن فلا)، فقدّم للناس الفتوى عن علم وتشخيص خارجي للمسألة.
وبعد هذا فهي شجاعة علمية في مواجهة ردود الفعل العنيفة حتى من أقرب الناس إليه، وهو ما كرره في أكثر من موقف: (هذا ما أتحدث به دائماً. ولهذا، في كل مسيرتي لن أجامل أحداً.. قلت لهم عندما ترونني لا أمثل قناعاتي، فلن أكون موجوداً).
شجاعة عن وعي:
وفي قناعتي أن شجاعته انطلقت عن وعي لأهمية هذا العنصر في تركيبة الشخصية الرسالية بما يمكّنها من أداء دورها لا في حالات الرخاء فقط، بل أن تتجلى كلمة الحق وينبلج الموقف الحاسم عند الشدة، دون تردد أو تلكّؤ بداعي التوقف عند الشبهات، أو الهروب من الفتنة، أو الخوف على المصلحة العامة، مما قد يُبعد الإنسان عن تأدية الواجب، أو التخلي عن مسؤولية (القائد) حين تلتف الساق بالساق.
وأراه يتمثّل ما كتبه هو ضمن حديثه عن جده أمير المؤمنين علي عليه السلام: (كان كل شئ في شخصيته عليه السلام في خدمة الله، وهكذا كان سيفه وبطولته وشجاعته، لا في خدمة الذات، وإنما في خدمة الله. لم تكن الشجاعة والبطولة عنده حالة ذاتية، ولم يكن السلاح ملكاً شخصياً له، فهو يعتبر ذلك ملكاً لله، لهذا كان لا يحرك سلاحه إلاّ في المواقع الذي يريد، التي تتطلب منه أن يحرك سلاحه فيها، كان ينتظر أمر الله وينتظر المعركة التي يشعر أنّ الله يرضى بها، ولا يسمح لنفسه أن يدخل في أية معركة يمكن أن لا تكون في رضا الله، أو يمكن أن تسيء إلى الإسلام) بمثل هذه الرؤية لشجاعة علي عليه السلام انطلق في حياته ليكون الشجاع لا في خدمة الذات، وإنما في خدمة الله.
دعوة للآخرين:
ولذا كان يطالب الآخرين بأن يعالجوا مشكلة التردد والخوف عندهم كي يكونوا بمستوى المسؤولية، سواء في المجال العلمي والفكري أم في المجال السياسي أم في المجال الدعوي، وهو القائل: (لنكن مقاومةً في الفكر تواجه كلَّ الظالمين والمستكبرين، مقاومةً تحاول أن تنتج عناصر القوّة من داخل الأمة، تنتج عناصر القوّة حتى نتواصى بالحق فلا يسقط الحق بيننا، ونتواصى بالصبر فلا نسقط أمام الجزع. تعجبني كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما أرسل شخصاً ورجع يُجبّن أصحابه ويجبّنونه في وقعة خيبر، وأرسل شخصاً ثانياً ورجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه، قال: [لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرار] لنكن هذا الرجل، حتى نشجِّع أصحابنا ويشجّعونا. ولنتحدّث عن الشجاعة ولا نتحدّث عن الضعف).
شجاعة سياسية:
نعم، لم يهب (السيد) كل محاولات الاغتيال والصواريخ والمتفجرات التي استهدفته شخصياً، وراح ضحيتها المئات من الأبرياء، واشتركت فيها دول استكبارية وجهات استخبارية عديدة كانت ترى فيه الأب الروحي للعمل الإسلامي المقاوم، فأرادت أن تُسكت ذلك الصوت، ولكنهم لم يعرفوا من هو محمد حسين فضل الله.. حسبوا أن رصاصتِهم (التي إن لم تصب ستُدْوش) وتُزعج وتُفقد (السيد) توازنه، ليقبع بعدها في زاوية حجرته، مفضلاً الدور التقليدي لعالم الدين.. ولكنَّ كيدهم عاد إلى نحورهم، وفي كل مرة ينطلق (السيد) من جديد في ميدان المواجهة مع العدو كجدِّه حيدرة عليه السلام أسداً هصوراً ازداد قوة إلى قوته وعزيمة إلى عزيمته. وكما أنه لم يهب محاولات التصفية الجسدية فإنه كذلك لم يهب مواجهة كل محاولات القتل المعنوي الذي يبقى معه الإنسان حياً جسداً إلا أنه يفقد حرية التفكير وحرية الكلمة وحرية الموقف، ليكون خاضعاً لهذا الشخص أو لتلك الجهة خضوعاً ذليلاً، وآمن أن عليه أن يكون شجاعاً في مواجهة الأمرين معاً. وهكذا كان الشجاع أيضاً في الموقف السياسي، وهو الذي عاش في بلد لم يذق طعم الراحة منذ أمد بعيد، في أجواء الحرب الأهلية، وفي الاحتلال الصهيوني، وفي كل النزاعات الطائفية والحزبية، وفي التدخلات الإقليمية، وفي كل الخروقات الأمنية وأجواء الصراع، فعاش (السيد) في عمق الحدث، فكانت تحليلاته الدقيقة تسبق الحدث، وكانت توجيهاته الأبوية تفرض احترامها على القريب والبعيد، لا يداهن في ما يقول، ولا يجامل على حساب المصلحة العامة، ولذا عرف الجميع في موقفه السياسي: الإخلاص والصدق والبصيرة.. والشجاعة. كما أنه لم يؤطّر نفسه في حدود لبنان، بل كانت حركته السياسية فكراً وتفاعلاً وإحاطةً وتربيةً وتوجيهاً ذات شمولية واسعة، فقصدته الوفود الدولية والشخصيات من ذوي الاهتمام السياسي لينهلوا من عطائه الذي لا يعرف المجاملة السياسية. أعلى الله مقام المرجع الراحل وجعله في أعلى عليين مع أجداده الطاهرين.