خطبة الجمعة 23 شعبان 1433 ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : غارودي والبحث عن الحقيقة


(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) آل عمران:26-27.
ـ من روعة البيان القرآني أنه يحمل في طياته إمكانية استيحاء المعاني من تعابيره بجانب دلالتها الحقيقية المباشرة المتحققة من ظاهر النص، ولعله هو المراد من باطن القرآن وظاهره كما في بعض الأحاديث. مع التأكيد على أن لهذا الاستيحاء أسسه اللغوية لئلا يتحول إلى وسيلة للتلاعب في القرآن.
ـ ومثال ذلك قوله تعالى: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، ففي الحديث النبوي: (يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي. قال: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن) فمن الواضح أن ليس هذا هو المعنى الظاهر والأصلي للعبارة، بل هو معنى استيحائي باعتبار أن الله سمّى الإيمان حياة ونوراً والكفر ظلمة، كما قال تعالى في بيان المقارنة بين حال المؤمن والكافر: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)الأنعام:122.
ـ هذا الخروج من الكفر إلى الإيمان قد يتم بعوامل مختلفة، فقد ينبهر إنسان بمعجزة فيؤمن: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الأعراف:117-121. وقد يؤمن نتيجة الانبهار بالقيم الأخلاقية في الإسلام كما في العديد من الأحداث التي جرت في العهد النبوي وما بعد ذلك، كما قد يؤمن نتيجة الحاجة والإحساس بالضعف (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس:22. إلا أن أهم وأرقى صور الإيمان هو ذلك النابع عن قناعة عقلية متبلورة من عمق فهم الوجود والحياة والإيمان.
ـ قبل شهر بالدقة في 13 من يونيو توفي الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي عن عمر تجاوز الثامنة والتسعين، ومن يطّلع على مراحل حياته يجده مصداقاً من مصاديق (يُخرج الحي من الميت).
ـ وُلد من أب ملحد وأم كاثوليكية، ولكنه اختار في بداية حياته الالتزام بالبروتستانتية، ومع ظهور الشيوعية بقوة انضم إلى الحزب الشيوعي وهو في العشرين من عمره، ليغدو بمرور الوقت الفيلسوف الرسمي للحزب وأحد قادته.
ـ ولكن عقله لم يهدأ، فتمرد على الشيوعية في حزمة إشكالات طرحها ليبدأ رحلة البحث من جديد عن الإيمان، فالتزم الكاثوليكية، ولم يجد فيها مبتغاه، فانفتح على الإسلام وبدأ يقرأ ويؤلف في هذا المجال حتى شرح الله صدره عام 1982، معتبراً: (أن الإسلام يقدم تصوراً عقلانياً ومتكاملاً للكون والإنسان والحياة والله، كما أن تشريعات الإسلام تلائم طبيعة الإنسان والحياة ملاءمةً تامة، فضلاً عن انفتاح الإسلام على العقائد التي سبقته وانفتاحه على الثقافات الأخرى والعلم والفلسفة).
ـ وإذا أردنا أن نحدد العناوين الأهم في القضايا التي تبناها بعد إسلامه فسنجدها كالتالي:
1. مقارعة الصهيونية ابتداء من إدانته لمجزرة صبرا وشاتيلا، مروراً بمؤلفاته ككتاب: (الأساطير المؤسِّسة للسياسة اليهودية).
2. سعى لتخليص العالم الغربي من عقدة المحرقة النازية، والتي تستخدمها الصهيونية كورقة ضغط في وجه كل من يعاديها تحت عنوان معاداة السامية. ومن هنا كتب غارودي عن المبالغات في شأن المحرقة، وكشف عن أدلة تثبت وجود تعاون قد تمّ بين هتلر وبين قادة إسرائيليين، وغير ذلك من الفضائح التي لم يتحملها الصهاينة ولا الغرب، فحوكم وأدين وحورب إعلامياً بشكل واسع.
3. انتقاد الغرب في توجهاته: (وهذا يقودنا نحن الغربيين إلى بناء علاقات ودية بالعالم الثالث بعيدة عن ثقافة التفوق والعنصرية. وحتى تنجح خطة العمل لا بد من تغيير نمط الحياة من خلال التبشير الأخلاقي النابع من الإيمان، الإيمان بالله أو الإيمان بالإنسان، وكذا تصحيح المفاهيم في الإنتاج والاقتصاد).
4. تبنّي قضايا المظلومين في الشرق والغرب، حتى عُرف بعنوان (فيلسوف الإنسان).
5. الاهتمام بإعادة الإسلام إلى الحياة بصورة فاعلة، محتملاً أن (السبيل الوحيد في إرجاع الإسلام الحي إلى واقعنا، هو نبذ التعصب والتقليد الأعمى وفتح باب الاجتهاد، وإخراج الإسلام من دائرة القول إلى دائرة الفعل، ومن الجمودية إلى التجديد) معتبراً أن (كل نهضة للإسلام تبدأ بقراءة جديدة للقرآن).
ـ إن سيرة هذا الفيلسوف الإسلامي الغربي في رحلته إلى الإيمان، وحمل هم الإنسان، والدفاع عن القضايا العادلة يمثل نموذجاً لكل شبابنا الحائر الباحث عن الحقيقة في خضم تناقضات الحياة، وصراع الحديث والقديم، واستقواء الباطل وأهلِه، وتقهقر الحقِّ وأنصارِه، وضياع القيم الإنسانية، واستغلال الدين، واتساع دائرة النفاق، وانتشار الخرافة، وتراجع دور العقل، وتفشي العصبيات القومية والعرقية والدينية والمذهبية.. نموذج يدعوهم إلى قراءة الإسلام بوعي وتدبر وتجرّد عن كل المؤثرات والضغوطات النفسية في رحلة إيمانية حكى فيها القرآن نموذجاً لرحلة العقل في كيفية البحث عن الحقيقة إذ قال: (كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) ليستمر في بيان مسارات هذه الرحلة حتى أعلن: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فكان إيمانه النابع من العقل بالمستوى الذي عندما حاجَّه قومُه: (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ). الأنعام:75-80. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.