المهدوية والهروب إلى الأمام - الشيخ علي حسن

هل يمثل الإيمان بالمهدوية حالة من الهروب الى الأمام، بمعنى ان المجتمعات الإنسانية حين تشعر بالضعف عن مقاومة الظلم، فإنها تبحث عن قادم في المستقبل القريب أو البعيد الذي سيخلصها من نير الظالمين، لتستكين الآن الى الوضع القائم وترضى به مرغومة، إيماناً منها بأن الخلاص لن يتحقق مادام ان هذا المخلِّص لم يظهر بعدُ؟
هذه الإشكالية يطرحها عدد من الكتاب الذين يعتبرون ان العقيدة المهدوية لا تعدو ان تكون أسطورة من نسج خيال الإنسان الضعيف على مرّ التاريخ، يبرر بها استسلامه للباطل والظلم، وأخذت مسميات عديدة، كما هي عقيدة اليهود في ايليا، وعقيدة النصارى في المسيح، وعقيدة المسلمين في المهدي عليه السلام.

انتظار المخلِّص

انتظار المخلِّص بشكل عام واطلاق البشارات بظهوره في زمن قادم أمرٌ اعتادته الرسالات السماوية، وعرفه المؤمنون بها في أزمنة مختلفة، وهي جزء من الحالة الإيمانية التي تمزج عالم الشهادة بعالم الغيب، وتربط الحاضر بالمستقبل، من خلال الوحي الذي يُعتبر من أهم ركائز الإيمان بالرسالات السماوية، ومثال ذلك البشارة بظهور النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله قبل قرون من بعثته وانتظار المؤمنين لتحقق تلك البشارة جيلاً بعد جيل، الى أن شاء الله سبحانه أن يتحقق ذلك بعد أكثر من 500 عام من زمن اطلاق البشارة: {وَاذ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ انِّي رَسُولُ اللَّهِ الَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمهُ أحْمَدُ} (الصف: 6)، دون ان تتحول هذه البشارة، أو يغدو هذا الانتظار حالة من الهروب الى الأمام، ورضا بالواقع الذي عاشه المؤمنون بالرسالة العيسوية، بل كان مفتاح الأمل الذي يدفعهم دائماً للصبر في الله، والثبات في طريق الابتلاءات العظيمة والاستعداد للحظة الحقيقة، لا الصبر السلبي الذي يخنع فيه الإنسان للظلم فيتخلى عن إيمانه وقيمه في مقابل انتظار من يأتي ليغيِّر له الواقع على الراحة الى ما هو أفضل: {وَلَتَجِدَنَّ أقرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ انَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأنَّهُمْ لأ يَسْتَكْبِرُونَ، وَاذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ الَى الرَّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لأ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ ان يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (المائدة: 84-82).

أقسام الانتظار

ولعل من يتحدث عن الهروب الى الأمام من خلال الاعتقاد بالمهدي المنتظر انما يتحدث عن نوع من الانتظار السلبي، دعا اليه البعض ممن أخطأ قراءة العقيدة المهدوية، اذ يمكن القول ان بين أيدينا ثلاثة أقسام من الانتظار:
1 - الانتظار الإيجابي: وهو الذي يتمسك فيه الإنسان بعقيدته ومبادئه وقيمه، ويسعى جاهداً لاصلاح الواقع الذي يعيشه ما استطاع، باعتبار ذلك جزءاً من مسؤوليته أمام الله وأمام الإنسانية في كل زمان، وباعتباره رافداً من روافد الاستعداد لاستقبال الظهور المنتظَر لمخلِّص البشرية جمعاء، ولو في قرون لاحقة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). فكما أننا نحصد ما زرعه مَن سبقنا، فعلينا ان نزرع ليحصد اللاحقون ما زرعنا.
2 - الانتظار السلبي: اذ يدعو البعض الى الرضوخ الى الواقع القائم مهما كان سيئاً، لأن الحقيقة الغيبية وفق ادعائهم تنص على ان أية حركة رافضة للظلم، وثائرة على الباطل فهي أيضاً ظالمة، وعلى باطل مادامت غير منضوية تحت لواء المهدوية، فعن الامام محمد الباقر عليه السلام: (كل راية تُرفع قبل راية القائم عليه السلام صاحبها طاغوت!). وقد حقق بعض أهل الاختصاص هذه الروايات وخرجوا بنتيجة مفادها ان هذه الروايات اما ضعيفة واما أنها تخبر عن الرايات المرفوعة من قبل أناس يدّعون المهدوية قبل ظهور المهدي الحقيقي، أو يدّعون النيابة الخاصة عن المهدي ليحققوا لأنفسهم مكاسب خاصة بعيدة عن الحق.
3 - الانتظار السلبي الفاعل: وهو القسم الأخطر من سالفه، اذ يدعو الى تحقيق مقدمة ظهور المهدي في عنوانه الأبرز: (كما ملئت جوراً وظلماً)، والمساعدة على تحقق هذا الظلم الفادح على الأرض، من خلال السكوت تارة لتيسير السبيل أمام (القوى الشيطانية) لتفسد في الأرض بأسرع صورة ممكنة، بل ومن خلال المعاونة على انتشار الجور بتقديم خدماتها الى الظالمين إسهاماً منها في تحقيق المقدمة الحتمية لظهور المهدي! ومن الواضح تعارُض هذا مع مبدأ كل إنسان مؤمن يتحمل مسؤولياته في كل زمان بغض النظر عن المسألة المهدوية، ومن ضمن مسؤولياته الدعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، فهل يمكن لمسلم عاقل ان يقول ان تكليفه لا يتوافق مع ما في الآية القرآنية بذريعة انتظاره لظهور المهدي في آخر الزمان؟ وقد ذم القرآن قسماً من بني اسرائيل بسبب تخليهم عن مسؤولياتهم تجاه الباطل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي اسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 79-78). والملاحظ ان اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة عمل خلال عهد حكومة (بوش الابن) من منطلق عقائدي على تقديم الدعم الهائل لكل المشاريع الصهيونية، والدفع بقوة نحو حالة صدامية بين الحضارات، لتحقق لليهود من خلال دولتهم قوة وسلطاناً وامعاناً في الفساد والظلم كي يكون ذلك مقدمةً لظهور السيد المسيح! وهو توجه لا يبتعد في منحاه الام عن القسم الثالث من الانتظار.

خطأ مفهومي

بات من الواضح الآن ان من يتحدث عن سلبية الإيمان بالعقيدة المهدوية لأنها تؤصّل الرضا بالباطل، وتخدم مصالح ذوي السلطة، وتدفع للهروب الى الأمام بدلاً من مواجهة الواقع السلبي، انما يتحدث عن أصحاب القسمين الثاني والثالث، فحقيقة الانتظار تأتي بمعنى ان ننتظر المهدي عليه السلام لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، ولا انتظار المعينين على الفساد والظلم، بل انتظار الرساليين الذين يحملون همّ الإنسانية المعذّبة، والواقع الفاسد، والجور المتفشي، والظلم المستفحل، فيعملون بما أوتوا من قوة لتغيير ذلك كله الى الأحسن، متقربين بذلك الى الله سبحانه، منتظرين ظهور من يملأ الأرض كلها عدلاً وقسطاً، دون أن يمنعهم ذلك من أن يحاربوا الظلم في واقعهم، ويسعوا لرفع الجور ما أمكن.. لأن المهدي رسالة نعيش روحانيتها في الحاضر، ونفعّل أهدافها في الواقع، وننتظر حركتها الشمولية في المستقبل.