سبل تحقيق الزهد

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام كما في نهج البلاغة: (أيُّهَا النَّاسُ، الزَّهَادَةُ قِصَرُ الأمَلِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ، والورعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ، فَإنْ عَزَبَ ذلِكَ عَنْكُمْ فَلأ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ، وَلأ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ، فَقَدْ أعْذَرَ اللهُ الَيْكُمْ بِحُجَج مُسْفِرَة ظَاهِرَة، وَكُتُب بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَة).
يبيّن الإمام علي عليه السلام في هذه الخطبة سبل تحقيق الزهد، معتبراً أنها تتلخص في ثلاثة عناوين:
1 - قصر الأمل: وعلاقة ذلك بالزهد واضحة، فقصر الأمل يعني ألا يعيش الإنسان الأمل في البقاء طويلاً في الحياة بالصورة التي يتحول فيها الارتباط بالدنيا وكأنه ارتباط أبدي، أو كأن الموت سيكون بعيداً جداً. والزهد في واقعه قطع الارتباط الشعوري بالدنيا بالمستوى الذي عبّر عنه الإمام عليه السلام في كلام آخر له قال: (الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} ومَن لم ييأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه).
2 - الشكر عند النعم: وتتجلى العلاقة بينه وبين الزهد من خلال كون الشكر إحساساً بأن الأمور بيد الله سبحانه، وهو مقدّر الأرزاق، وهي فكرة منتزعة من الآية المباركة: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا مَتَاعٌ} (الرعد: 26)، فالذي يؤمن بهذه الحقيقة لا يفرح فرح البطر الذي يُفقده توازنه، فيطغى ويخوض في الحياة وكأن الموت غافل عنه، وينسى الآخرة وكأن الحساب فيها ليس من شأنه، بل يعتبر أن ما وصله من النعم انما هو من الله، وبعين الله، والله قادر على أن يسلبه إياه في لحظة، وهو لم يرزقه إياه لكي ينساه، بل لكي يعيش الشكر اللساني، والشكر القلبي، والشكر العملي، الذي يترجمه الى استقامة في السلوك وتوازن في العلاقة بين الدنيا والآخرة.
3 - الورع عند المحارم: وعلاقته بالزهد قد تبدو غامضة للوهلة الولى، إلا أنه بالتمعن في حقيقة الزهد ندرك أن الإنسان الذي لا يتورع عن المحارم إنسان مقبل على الدنيا بشغف، وقلبه متعلق بملذاتها، يحزن لفقدها ولو كانت محرّمة، ويفرح لنيلها ولو كانت بمعصية، فكيف يكون مَن لا ورع له زاهداً؟
وبعد ذلك ينطلق الإمام ليبيّن ان الإنسان الذي لا يستطيع أن يحقق العنصر الأول لتحقيق الزهد، فعليه أن يبذل جهده ليحقق العنصرين الآخرين ما أمكن، فهما من ركائز النجاة في الآخرة، وقد أقام الله حججه واضحة في بيان الحرام وفي لزوم الشكر بما لا يستطيع الإنسان المسلم أن ينكرها أو يدّعي جهله بها.