قيَم الأكثرية وقيمتها - الشيخ علي حسن

الحديث عن الأكثرية والأقلية متعدد الشعب، فتارة يكون حول ما تمثله من قيمة، وتارة حول البحث في مشروعية قرار الأكثرية، وهل هو الأكثرية كأكثرية أم أكثرية النخبة، وتارة حول علاقة هذا العنوان بالديمقراطية والشورى، والاختلاف بينهما، ومدى الإلزام في القرارات بالمستوى الذي يعد الخروج عنه خروجاً عن الشرعية أو ارتكاب المعصية، وغير ذلك من القضايا المتعلقة. وسأقسّم الحديث هنا عن الأكثرية والأقلية إلى قسمين:
أولاً، في إطار القيمة:
الحديث عن الأكثرية والأقلية في إطار القيمة السياسية أو الاجتماعية، فهل كون الأكثرية مع قرارٍ ما يعني صواب ذلك القرار وحقانيته، وكون الأقلية مع القرار الآخر يعني خطأه وبطلانه؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن القرآن الكريم في آيات عديدة يطرح عكس ذلك، وذلك من قبيل قوله سبحانه: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم:30. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) الأنعام:116. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) الزخرف:78. وكأن المنتزَع من الآيات الشريفة أن الأقلية هي التي تمثل القرار الصائب وحقانية الموقف، لا العكس.
والصحيح أن يقال أن القرآن الكريم لا يريد أن يثبّت أن الأكثرية كأكثرية تمثل الخطأ والباطل، ولا الأقلية كأقلية تمثل الصواب والحق.. فالمسألة بحسب القرآن لا ترتبط بالعدد، وإنما ترتبط بالمضمون نفسه، تماماً كما جاء في نهج البلاغة في الحكمة 259 حينما سأل الحارث بن حَوْطٍ فقال: (أتُراني أظنّ أصحابَ الجمل كانوا على ضلالة؟) فقال الإمام علي عليه السلام: (يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ).
فالإمام عليه السلام يعتبر أن القاعدة الصحيحة هي أن يسعى الإنسان لاكتشاف الحق من المصادر الأصيلة حتى يعرف أي الفريقين على حق وأيهما على باطل، وفي ذات الوقت فإن هذه القاعدة تتضمن تحذيراً من الانبهار بالعدد بما يستوحش من خلاله الإنسان من المخالفة، فلربما لا تملك هذه الكثرة العددية العقل النوعي الذي يمكن الركون إليه، فلربما يكون أكثر من فيهم إنما ينظرون إلى الأمور بسطحية، أو وفق حساب المصالح الشخصية، أو يُساقون سوقاً دون تفكير من خلال الاتباع القبلي أو الحزبي أو العصبي، تماماً كما في المقولة المشهور: (الناس على دين ملوكهم).
ومن طريف ما قرأت أنه (كان الناس في زمن الحجاج إذا أصبحوا يتساءلون إذا تلاقوا: مَن قُتل البارحة ومن جلد؟ وكان الوليد بن هشام صاحب ضياع ومصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع وشق الانهار، وغرس الأشجار، ولما ولي سليمان بن عبد الملك وكان صاحب طعام وقيان، كان الناس يتحدثون ويتساءلون عن الأطعمة اللذيذة، وفي أخبار القيان والسراري، ويعمّرون مجالسهم بذكرهن، ولما ارتقى عمر بن عبد العزيز الخلافة كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القران؟ وكم وِرْدك كلَّ ليله؟ وكم يحفظ فلان؟ وكم يصوم في الشهر؟) هكذا تتقلب أحوال الناس إلا من عصم الله.
وقد تتساءل: فلم أكّد القرآن في أكثر من آية على الوصف السلبي للأكثرية؟ والجواب عن ذلك أن الأمر يعد مجرد وصف تاريخي لواقع حال الناس، وهذا الوصف لا يمكن تعميمه في كل حالة بحيث يتحوّل إلى قاعدة مفادها أن الأكثرية دائماً على باطل، والأقلية دائماً على حق، فقد يكون الطرفان على باطل، كما قد يمتلك هذا الطرق شيئاً من الحق والطرف الآخر شيئاً من الحق أيضا. وعليه فإن الوصف الوارد في الآيات لا يمثّل قاعدة يمكن الركون إليها في تشخيص الحق من الباطل.
بالطبع هذا لا يعني رفض وعدم شرعية المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار من خلال البرلمانات وغير ذلك ولا الدعوة إلى الاستبداد، فهو عنوان آخر يبحث من خلال تفاصيل عديدة في قراءة للديمقراطية والشورى ومواقع التلاقي والتعارض في ما بينهما وغير ذلك من التفاصيل التي لا أريد الخوض فيها ضمن هذا المقال.
ثانياً، أدب امتلاك الغلبة:
فالإنسان ـ كفرد أو كمجموع ـ معرّض إلى الشعور بالغرور والعُجب بالمستوى الذي يُفقده توازنه، ليتحول إلى طاغوت يريد أن يكتسح كل ما أمامه، ويلغي كل من يختلف معه، وأن يفرض كل ما يريده بالضغط والترهيب: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) العلق:6-7. وأن يحوّل ما حوله إلى حقل مليئ بالألغام ليعرقل حركة الآخرين ويكون الطريق مفتوحاً له وحده في السبيل الذي يحدده هو.. وينسى أن الآخرين شركاء معه، سواء في نفس الكيان السياسي أو في المؤسسة أو في الوطن، تماماً كالحالة التي عاشها صاحب الجنة الذي نقل القرآن حواره مع صاحبه المؤمن الذي كان يدعوه لشكر نعم الله بالإيمان والعمل الصالح، إلا أنه أبى إلا كفوراً: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) الكهف:34-35. فهو ليس على استعداد للاستماع إلى الآخرين، لأنه يعيش حالة من سكر القوة ونشوة الامتداد، وهو ينسى أنه كان يعيش الضعف في يوم ما، وأنه لربما تألم من سطوة الأقوى أو الأكثر في ما مضى، ليعود ويكرر ذات الخطأ حين دارت الدوائر، وستدور الدوائر من جديد، وتعود الأكثرية أقلية، والأقلية أكثرية، فهل نعاني كل مرة من سُكر امتلاك القوة ونشوة الامتداد الذي يحوّل الواقع الذي نعيشه إلى واقع ضاغط يفقد الآخرين توازنهم أيضاً؟
بين تونس ومصر:
ويمكن للمتابع للشأن السياسي الخارجي أن يقارن وضع تونس بعد الثورة بمثله في مصر.. فالاستقرار السياسي النسبي في تونس تحقق في جانب كبير منه بسبب مبادرة حزب الأغلبية الفائزة إلى دعوة الآخرين إلى المشاركة الحقيقية في السلطة وفي اتخاذ القرار. ولك أن تقارن ذلك مع وضع مصر مثلاً حين انطلقت الأكثرية فيها للاستحواذ على كل شئ، وكيف أنها فقدت الزخم الثوري فأحدثت ربكة في مسيرة الثورة مما أتاح الفرصة للأطراف المضادة للثورة للتقدم في مواقع عديدة، إلا أنه لما عاد شئ من التلاحم والثقة بين تلك الأطراف الثورية قبيل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية استعادت شيئاً من بريقها وتأثيرها.
الكويت في المرحلة القادمة:
إن الظروف التي تمر بها البلاد بعد حكم المحكمة الدستورية تفرض على كل من شارك في الفوضى السياسية التي عانينا منها جميعاً ـ وما زلنا نعاني منها ـ وعاش معها الكويتيون توتّراً وضغوطاً نفسية هائلة، إنها تفرض عليهم جميعاً أن يستعيدوا شيئاً من حكمة التفكير وتوازن السلوك وأدب الاختلاف، هذا إن كانت مصلحة الكويت ـ حقاً ـ محط أنظارهم، وكفى عبثاً وأنانية وطغياناً وغروراً.. ليس الوقت وقت العنتريات السياسية لذوي المطامع الشخصية والحزبية، بل وقت حكمة رجالات الكويت، نريد حراكاً ومبادرات سياسية عاجلة من عقلاء الوطن يُتعالى فيها على الجراح، وتُفتح فيها صفحة جديدة تقوم على المواطنة الحقيقية والعيش المشترك والمشاركة السياسية للجميع دون إقصاء لأحد، صفحة جديدة لا تقوم على المزايدات من خلال هدر المال العام واستعراض القوة، بل على القاعدة القرآنية (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الإسراء:53.