خطبة الجمعة 2شعبان1433ـ الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الأكثرية والأقلية


(فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) الكهف:34-35. سأقسّم الحديث عن الأكثرية والأقلية إلى قسمين:
ـ أولاً، الحديث عن الأكثرية والأقلية في إطار القيمة السياسية أو الاجتماعية، وهل أن كون الأكثرية مع القرار الكذائي يعني صواب ذلك القرار وحقانيته، وكون الأقلية مع القرار الآخر يعني خطأه وبطلانه.
ـ قد يبدو للوهلة الأولى أن القرآن الكريم في آيات عديدة يطرح عكس ذلك (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم:30. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) الأنعام:116. (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) الزخرف:78. وبالتالي فعادة ما تكون الأقلية هي التي تمثل القرار الصائب وحقانية الموقف، لا العكس.
ـ والصحيح أن يقال أن القرآن الكريم لا يريد أن يثبّت أن الأكثرية كأكثرية تمثل الخطأ والباطل، ولا الأقلية كأقلية تمثل الصواب والحق.. فالمسألة بحسب القرآن لا ترتبط بالعدد، وإنما ترتبط بالمضمون نفسه، تماماً كما جاء في نهج البلاغة في الحكمة 259: (وقيل: إنّ الحارث بن حَوْطٍ أتاه فقال: أتُراني أظنّ أصحابَ الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال عليه السلام: يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ).
ـ فالإمام(ع) يعتبر أن القاعدة الصحيحة هي أن يسعى الإنسان لاكتشاف الحق من المصادر الأصيلة حتى يعرف أي الفريقين على حق وأيهما على باطل. وهو يتضمن تحذيراً من الانبهار بالعدد بما يستوحش من خلاله الإنسان من المخالفة، فلربما لا يملك كل هؤلاء العقل النوعي الذي يمكن الركون إليه، وأن أكثر من فيهم إنما ينظرون إلى الأمور بسطحية، أو وفق حساب المصالح الشخصية، أو يُساقون سوقاً دون تفكير من خلال الاتباع القبلي أو الحزبي أو العصبي، (الناس على دين ملوكهم).
ـ ومن طريف ما قرأت أنه (كان الناس في زمن الحجاج إذا أصبحوا يتساءلون إذا تلاقوا: مَن قُتل البارحة ومن جلد؟ وكان الوليد بن هشام صاحب ضياع ومصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع وشق الانهار، وغرس الأشجار، ولما ولي سليمان بن عبد الملك وكان صاحب طعام وقيان، كان الناس يتحدثون ويتساءلون عن الأطعمة اللذيذة، وفي أخبار القيان والسراري، ويعمّرون مجالسهم بذكرهن، ولما ارتقى عمر بن عبد العزيز الخلافة كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القران؟ وكم وِرْدك كلَّ ليله؟ وكم يحفظ فلان؟ وكم يصوم في الشهر؟) هكذا تتقلب أحوال الناس إلا من عصم الله.
ـ أما تأكيد القرآن على الوصف السلبي للأكثرية فيعد مجرد وصف لواقع حال الناس، دون أن يمثّل قاعدة يمكن الركون إليها في تشخيص الحق من الباطل.
ـ ثانياً، أدب امتلاك الغلبة.. فالإنسان ـ كفرد أو كمجموع ـ معرّض إلى الشعور بالغرور والعُجب بالمستوى الذي يُفقده توازنه، ليتحول إلى طاغوت يريد أن يكتسح كل ما أمامه، ويلغي من يختلف معه، وأن يفرض كل ما يريده بالضغط والترهيب، وأن يحوّل الوطن إلى حقل مليئ بالألغام، وينسى أن الآخرين شركاء معه، سواء في نفس الكيان السياسي أو في المؤسسة أو في الوطن، تماماً كصاحب الجنة: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) فهو ليس على استعداد للاستماع إلى الآخرين، لأنه يعيش حالة من سكر القوة ونشوة الامتداد (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).
ـ وهو ينسى أنه كان يعيش الضعف في يوم ما، وأنه لربما تألم من سطوة الأقوى أو الأكثر في ما مضى، ليعود ويكرر ذات الخطأ حين دارت الدوائر، وستدور الدوائر من جديد، وتعود الأكثرية أقلية، والأقلية أكثرية، فهل نعاني كل مرة من سُكر امتلاك القوة ونشوة الامتداد الذي يحوّل الواقع الذي نعيشه إلى واقع ضاغط يفقد الآخرين توازنهم أيضاً؟
ـ ويمكنك أن تلاحظ وضع تونس بعد الثورة، فالاستقرار السياسي النسبي تحقق في جانب كبير منه بسبب مبادرة حزب الأغلبية الفائزة إلى دعوة الآخرين إلى المشاركة الحقيقية في السلطة وفي اتخاذ القرار. ولك أن تقارن ذلك مع وضع دول أخرى حين انطلقت الأكثرية فيها للاستحواذ على كل شئ.
ـ إن الظروف التي تمر بها البلاد بعد حكم المحكمة الدستورية تفرض على كل من شارك في الفوضى السياسية التي عانينا منها جميعاً ـ وما زلنا نعاني منها ـ وعاش معها الكويتيون توتّراً وضغوطاً نفسية هائلة، إنها تفرض عليهم جميعاً أن يستعيدوا شيئاً من حكمة التفكير وتوازن السلوك وأدب الاختلاف، هذا إن كانت مصلحة الكويت ـ حقاً ـ محط أنظارهم، وكفى عبثاً وأنانية وطغياناً وغروراً.. ليس الوقت وقت العنتريات السياسية لذوي المطامع الشخصية والحزبية، بل وقت حكمة رجالات الكويت، نريد حراكاً ومبادرات سياسية عاجلة من عقلاء الوطن يُتعالى فيها على الجراح، وتُفتح فيها صفحة جديدة تقوم على المواطنة الحقيقية والعيش المشترك والمشاركة السياسية للجميع دون إقصاء لأحد، صفحة جديدة لا تقوم على المزايدات من خلال هدر المال العام واستعراض القوة، بل على القاعدة القرآنية (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الإسراء:53
ـ اللهم اجعل هذا البلد آمنا.