الإنصاف .. ابتلاء عظيم

عَنْ جَارُودِ أَبِي الْمُنْذِرِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (الصادق) عليه السلام يَقُولُ: (سَيِّدُ الأَعْمَالِ ثَلاثَةٌ: إِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى لا تَرْضَى بِشَيْ‏ءٍ إِلا رَضِيتَ لَهُمْ مِثْلَهُ، وَمُوَاسَاتُكَ الأَخَ فِي الْمَالِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. لَيْسَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَقَطْ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَئ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَخَذْتَ بِهِ، أَوْ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ شَئ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تَرَكْتَهُ). وفي الحديث الصحيح القريب من الحديث السابق مضموناً عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: (مَا ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُ بِشَيْ‏ءٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ خِصَالٍ ثَلاثٍ يُحْرَمُهَا؟ قِيلَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الْمُوَاسَاةُ فِي ذَاتِ‏ يَدِهِ، وَالإنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ كَثِيراً، أَمَا إِنِّي لا أَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَلَكِنْ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ لَهُ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ).
سيد الأعمال:
يأتي هذا النصّان ليؤكدا على أهمية (الإنصاف) باعتباره من (سيد الأعمال) في الوقت الذي يعتبر من (أصعب الابتلاءات) التي يخفق فيها كثير من الناس بلحاظ تعارضها مع الرغبات الذاتية ومع حب النفس.
وأتوقف عند مثال واحد منها، فحينما تسافر إلى بلد آخر وتجدهم يعاملونك بكل تقدير واحترام، لا لما تملكه من مال، ولا لحاجتهم إليك كسائح، بل تقديراً لإنسانيتك فقط، حينها تشعر بالارتياح العميق وتمتدح ذلك البلد حيثما حللت. والعكس صحيح عندما تفاجأ في زيارتك لبلد ما بأنك مهان وأنهم ينظرون إليك نظرة دونية ويعاملونك باحتقار لأنك عربي أو مسلم أو للون بشرتك أو لغير ذلك من الأمور التي تتعصب لها بعض الأمم.
هذا الإحساس ـ بطرفيه المتضادين ـ يستدعي منك الإنصاف وأنت تعامل من يفد إلى وطنك، بغض النظر عن جنسيته وقوميته ولغته ودينه ولونه ومستواه المادي.. الإنصاف المتمثل في احترام إنسانيته في غربته كما أحببت أن يحترم الآخرون إنسانيتك في غربتك.
من أصعب الاختبارات:
وقد أكد الإمام جعفر الصادق عليه السلام على صعوبة الأمر حتى اعتبر أن المؤمن قد يخفق في ذلك الابتلاء وهو ما عبّر عنه بكلمة: (يُحْرَمُهَا). والأوضح منه قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا تطيقها هذه الأمة): فهي صعبة وبالتالي تحتاج إلى تربية وجهاد للنفس (المواساةُ للأخ في ماله، وإنصافُ الناس من نفسه، وذِكرُ الله على كل حال). ومن الواضح أن كلام الإمام الصادق هو من روح كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أما سبب الإخفاق والحرمان من التحلي بالإنصاف فقد يرجع إلى:
1. العمل بظاهر التدين وإهمال انعكاساته، والتمسك بصورة العبادات والابتعاد عن روحها.
2. كما قد يرجع إلى حالة من الشعور بالتميز على الآخرين وبالتالي الابتلاء بالعجب واحتقار الغير.
3. ترسخ العصبية العربية مما يصعب على العربي المسلم التخلي عنها.
4. وساوس الشيطان حين يعجز عن التأثير في العقيدة والصلاة وغيرها، فيعمد إلى الإخلال بجوانب من شخصية المؤمن العامة.
نتيجة عظيمة:
ولكن تجاوز هذا الابتلاء بنجاح يكفل للمؤمن نتيجة عظيمة ففي الصحيح عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: (ثَلاثَةٌ هُمْ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ تَدْعُهُ قُدْرَةٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ إِلَى أَنْ يَحِيفَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ، وَرَجُلٌ مَشَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَمِلْ مَعَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ بِشَعِيرَةٍ، وَرَجُلٌ قَالَ بِالْحَقِّ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ).
وخلاصة القول أنه إذا كانت بعض الأمم قد نجحت في تربية شعوبها وتنمية قيم مجتمعاتها في هذا الإطار، ودون دافع ديني أو أخروي، فإننا ـ كمسلمين ـ نمتلك من حيث المبدأ مقومات عديدة للنجاح، ولكنها في نهاية المطاف من مفردات جهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر الذي يحتاج إلى تربية ومعاناة.